class='ads'>
الأربعاء، مايو 20

الجزء الثاني من دراسة: "قضية الإبداع الأدبي في الإسلام"

الإسلام والإبداع الأدبي:
الأستاذ عبد الرزاق المساوي


الإسلام والإبداع الأدبي:

الإسلام كما هو معلوم دين الله الخاتم، له في بنيته النصية والعقلية ما يثبت ذلك ويدلل عليه، وله خصائص يتميز بها عن غيره من الأديان كما له ميزاته التي ينماز ويمتاز بها عما دونه.. وله مقومات ومرتكزات يتربع عليها وأسس يقوم عليها.. هذه الخصائص والمقومات والأسس تكوّن بنيانا شامخا متراصا متينا متكاملا تتفرع عراه لتشمل الفكر والسلوك، وتمتد بخيوطها إلى العقل والنفس والوجدان وتسبح في عالم الروح وتضبط وتراعي أحوال الاجتماع.. فلا غرابة إذن أن تكون للإسلام كلمته أو نظرته في شتى المناحي من الحياة البشرية.. يرسم لكل فرع منها ما يجعله مؤديا الغرض الذي من أجله كان، والوظيفة التي عليها قامت قائمته.. ففروع الحياة متشعبة وسبلها كثيرة ولكنها في جوهرها متكاملة غير متنافرة.. وفي نظر الإسلام ذلك التشعب وتلك الكثرة لا تـنمان عن التنافر والصراع، بله على العكس من ذلك فهو الدين الإلهي العظيم الذي يرى فيها الإثراء والتكامل والتدافع من أجل الاستمرار والوصول إلى مستوى الإحسان في كل شيء..

الإسلام دين يراعي للحياة تشعباتها في إطار تكاملها فهو – كما أشرنا - لا يعتبره تشعب تنافر بله تكامل وتآزر.. لذا نجده دينا يهتم بالقضايا الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والأمنية والعسكرية، وبمسائل الفكر والثقافة والعلم والفن وكل المرافق التي تنمو بها الحياة ويزهو بها الأحياء، كل ذلك في دائرة واسعة يؤطرها الإسلام داخليا وخارجيا وعلى المستويين العمودي والأفقي ودون أن يفصل بين هذه المكونات اللهم إلا على مستوى الدرس فقط..

وما الإبداع الأدبي إلا جزء لا يتجزأ من حياة الإنسان بدليل أنه كان ولا زال رفيق دربه في الحياة عبر المسيرة الزمنية التاريخية الطويلة، ينمو مع نمو الإنسان، ويتغير مع تغيره، ويتحول بتبدل أحواله، ويسعفه في التعبير عن خوالجه وتشخيص إحساساته والتحدث لغيره بلغات فنية جذابة..

إن الإبداع الأدبي عملية متجددة ومتطورة ومتغيرة لكونه عنصر مواكب للحياة وتقلباتها ومتطلباتها ومواز لمسيرة المجتمع الإنساني في آفاقه وأهدافه وغاياته ومراميه..

الإبداع الأدبي ابتكار واكتشاف يتخذ من اللغات(1) وسيلة للتعبير عما يغمر الحياة ويروج في الوجود ويختمر في عالمي الغيب والشهادة، هو تشييد في إطار لغة معينة للتعبير عن خوالج النفس وجمال الحياة وربوع الكون وخريطة الوجود وماهية الإنسان وكينونة الكائنات، كما هي في مخيلة وتصور وتكوين المبدع الأديب، ولذلك فالإبداع بالنسبة للمبدع كالمولود بالنسبة لوالديه وما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه -(2) الإبداع الأدبي تعبير فني جمالي متأصل ومتجذر في الكينونة الإنسانية لا يجليه سوى ذلك الذي يملك القدرة على تجليته..(3).

إن الإبداع الأدبي كائن حي نشط متغير متطور، وعنصر فعال يعيش زمنه الخاص به دون عزله عن جذوره الموغلة في القدم ودون التنكر لها أو الغض منها لاستفادته منها من أجل بناء ما هو حاضر وما هو مستقبلي في حياته..

الإبداع الأدبي لغات حمالة أوجه تصب في أجناس عديدة لها طابع وإطار يوحدها، كما لها خصائص ومقومات ومميزات تجعل لكل جنس من تلك الأجناس مقاييس تتحكم فيه وتصبغ عليه علامات ينفرد بها عن سواه.. ولها روابط وعلاقات ومشكلات تجمع وتوحد كما تفرق وتميز..

هذا الإبداع الأدبي ما محله من الإسلام؟ ما هو مركزه فيه؟ أين يوجد من بنيته؟ ما علاقته به؟ وفي كلمة واحدة ما مدى اهتمام الإسلام وهو دين سماوي بهذا النوع من الممارسات الحياتية عند الإنسان؟ وما دام الإبداع الأدبي جزء من الحياة، والإسلام اهتم بكل مرافق الحياة صغيرها وكبيرها وأدق من ذلك، فماذا يمكن أن يقول هذا الدين الإلهي في هذا العمل البشري؟..
هذا ما سنحاول الإجابة عنه من خلال هذه الجولة البسيطة في رحاب القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، على قاعدة: -تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا -(4).

كيف تطرح القضية:

إن قضية "الإسلام والشعر" قضية قديمة كما سبقت الإشارة إلى ذلك، وطرحت بأشكال عديدة، وفي مناسبات مختلفة، وعلى منابر متباينة، وفي عصور متباعدة، إلا أن هذه القضية القديمة لوي عنقها ونظر فيها إلى الجانب السلبي منها ونفخ في صوره، وألبس أزياء جديدة وصبغ بصبغ معاصرة، وأحيط به بألفاظ ومصطلحات حديثة رنانة حتى أضحت القضية بوجهها السلبي وكأنها ابتكار حديث، أو اكتشاف جديد، أو طرح لا عهد لمن سبق بمثله.. وذلك فقط وأكرر فقط لمواجهة "الأدب الإسلامي" بشكل عام والمعاصر منه على الخصوص..

لقد استعملت بعض اجتهادات القدامى في هذه القضية لمواجهة القومة الجديدة التي بدأت تبشر في الآونة الأخيرة بأدب إسلامي معاصر له جذور عريقة وأصول يانعة متأصلة وفروع صالحة للعطاء، وتفنن المحدثون في إبراز نقط الخلاف حولها، ليصلوا إلى تهمة هذا الأدب الإسلامي المعاصر بأنه نبتة لا أصول لها، فهو في نظرهم بدعة مستحدثة، لا علاقة له بالإسلام الدين الحنيف، بله يريد أصحاب هذه الصيحة الجديدة –كما يدعي بعضهم- أن يجدوا لهم فيه مكانا، و به مكانة(5).. 

والغريب في الأمر أن أبرز المواقف النقدية – وكنا نود الاستفادة منها - التي تعرضت لمفهوم أو نظرية الأدب الإسلامي بالنقد وبالنقض والمؤاخذة لم تتمكن من أن تجد لنفسها مسوغات لمواقفها، كما أن بعضها لم يرق في كتابته إلى المستوى العلمي في البحث بل أكثر من هذا منهم من لا يملك في قراءته لنظرية الأدب الإسلامي أي منهج واضح أو مضبوط أو أي رؤية نقدية مفهومة تملك مقومات وأسس معقولة، وإنما أخذ يخبط خبط عشواء –كما وقع للدكتور سعيد علوش- دون أن يضبط أدواته الإجرائية التي بها يخوض حوارا جادا وفاعلا مع هذا الكائن الذي نفض الغبار عن نفسه:غبار النكران والنسيان والعصيان(6) إن مثل هذه المواقف أصبحت لا تخفى على أحد لأنها طفحت على السطح بشكل سافر..

ولا يستطسيع أحد أن ينكر في وقتنا الراهن أن هناك محاولات مبذولة "من أتباع المذاهب الأدبية الغربية لتجاهل الأدب الإسلامي، أو إنكاره ومحاربته، والحيلولة دون ظهوره بأي صورة من الصور، مستغلين بذلك هيمنة كثير منهم على وسائل النشر والإعلام، أو احتلالهم لمراكز التدريس والتوجيه في المؤسسات التعليمية المختلفة."(7). 

نعود لنقول إن هذه القضية القديمة/الجديدة: "موقف الإسلام من الشعر والشعراء" أو بأسلوبنا الجديد في هذا البحث "موقف الإسلام من الإبداع والمبدعين" ما كانت أن تقوم لها قائمة لولا وجود فريقين متقابلين على طرفي نقيض، وكل فريق يحاول أن يدلل على رأيه بما يبدو له مقنعا، ويأتي بالحجج العقلية والنقلية على الخصوص ليؤكد صواب اختياره، وليدعم ما ذهب إليه،
ويرد على مخالفيه..

وما دام هناك فريقان: فريق ينادي إن الإسلام يقول: لا للشعر ولا للشعراء.. أي لا للإبداع الأدبي ولا للمبدعين الأدباء.. وفريق يعلن أن الإسلام يقول: نعم للشعر ونعم للشعراء .. أي نعم للإبداع الأدبي، ونعم للمبدعين.. ما دام الأمر كذلك، فإن القضية في اعتبارنا تتسع لتشمل الفريقين معا .. فلا يعقل أن نناقش قضية فيها رأيان متناقضان متباينان متباعدان، وكل منهما يستدل على صحة رأيه وصواب وجهة نظره وقوة اختياره بأدلة نقلية معينة ويدعمها بما يراه أدلة عقلية أو منطقية من خلال تحليله لنصوص اشتهرت في عهد النبوة والخلافة، ثم نتعصب لرأي بذاته دون اعتبار للرأي الآخر.. فلو كان لواحد من الرأيين كل الصحة والصلاحية الواقعية لكفانا مؤونة البحث، لما ظهر الثاني على ساحة القضية، ليمثل الخصم الشرعي للآخر .. فلو سمعنا مثلا أن قوما يذكرون رجلا بأخلاقه السيئة، وأن قوما آخرين يذكرون الرجل نفسه بأخلاقه الفاضلة، وأن كل فريق يستدل على ما يدعيه بأدلة معينة مستوحاة من واقع حياة الرجل المعني .. ماذا سيكون موقفنا لو طرحنا هذا السؤال: "هل هذا الرجل رجل سوء كما يدعي أحد الفريقين أم هو فاضل كما يحكي الآخر؟ إننا بطبيعة الحال سنختلف حسب اختلاف الأحداث والوقائع ومدى صحتها وثبوتيتها ومدى قناعتنا بها .. ولكن لنضع الاستفسار التالي: "لو كان هذا الرجل سيئا كل السوء، وفي كل الأحوال وفي جميع مظاهر حياته.. لما طرحنا الشق الثاني من السؤال، والذي يقول: هل هو فاضل؟ ولو كان فاضلا كل الفضل، وفي كل الأحوال وفي جميع مظاهر حياته .. لما طرحنا أيضا الشق الآخر من السؤال: "هل هو سيء؟.. فلو لحظنا شكلا واحدا موحد من الأخلاق في حياته لما سألنا عن احتمال وجود الشكل المخالف والمغاير.. لذا فوجود السؤال نفسه دليل على أن بعضهم رأى أخلاقا سيئة ولم ير غيرها أو خفيت عليه، وأن بعضهم الآخر رأى أخلاقا فاضلة ولم يلحظ ولم ير سواها .. لأن الرجل – بكل بساطة - أبدى النوعين معا في سلوكه، وتحرك بالخلقين في حياته، ومن ثمة اختلف فيه ناظروه، وفي نوع الأخلاق التي يمكن أن يتصف بها دون غيرها .. وبالمنطق نفسه نقول في "قضية الإسلام والشعر" أو "الإسلام والإبداع الأدبي" .. فلو وجدنا نصوص القرآن الكريم والحديث الشريف تقول: "لا" خالصة واضحة فيها معالم التحريم أو النهي أو التنفير أو الاشمئزاز لما سألنا هل يقول: "نعم" ؟.. ولو قال: "نعم" خالصة بينة واضحة لما تبادر إلى الذهن هل يقول: "لا"؟ 

هذا هو الذي دفعنا إلى القول بأن القضية تتسع لتشمل الفريقين أو الرأيين معا، لكن لكل فريق مجاله الخاص به الذي يشتغل في إطاره ويعمل به على تحقيق اختياره، لذا وجب معرفة أين يتجه سهم " لا " وأين تتربع " نعم ".. لأنه لابد من فضائين اثنين يعبر كل فريق في أحدهما عن رأيه ويدلي فيه بأدلته ويمنطق منطلقاته ويركز مرتكزاته ويقوم مقوماته.. كيف يمكن إذن أن نرصد هذا الأمر؟.. من أين سنبدأ؟.. وإلى أين سيكون المننتهي؟.. فالبداية من سورة الشعراء والنهاية عند سورة يس..

من سورة الشعراء:

لو تأملنا في كتاب الله عز وجل وبالضبط في تلك الآيات التي كانت سببا رئيسا في هذه القضية الإشكال، ومنها الآيات الأواخر من سورة الشعراء لاتضح أن الأمر يحتمل الوجهين ويتسع للرأيين من أول وهلة.. فالآيات الأولى من أواخر السورة (من 223 إلى 225) تحمل أو تتضمن ما يقصد به النفي "لا" والآية الأخيرة (226) تعلن عما ينم عن الإيجاب "نعم"، وكل هذا اجتمع بأسلوب تصويري تقريبي متكامل، وبلغة بليغة وفصيحة وعجيبة، وبرنة هادئة وساكنة ومطمئنة في قوله تعالى:- والشعراء يتبعهم الغاوون * ألم تر أنهم في كل واد يهيمون * وأنهم يقولون ما لا يفعلون * إلا الذين أمنوا وعملوا الصالحات، وذكروا الله كثيرا، وانتصروا من بعد ما ظلموا، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون (الشعراء:...226) إن هذه الآيات خالها بعضهم طعنا مبينا ومبيتا وصريح العبارة في فن الشعر، وأنها موقف عدائي بيِّنٍ مع سبق الإصرار وواضح من الشعراء وحملة تنكيلية وتشويهية بالمبدعين وبإبداعهم وفنهم. وهؤلاء المتوهمون كانوا كمن يقف عند قوله تعالى:-يا أيها الذين أمنوا لا تقربوا الصلاة-(النساء:43) وقوله تعالى:-فويل للمصلين- (الماعون:4).

آيات وآية:

نعم إن من آيات الشعراء ما يعتبر طعنا صريحا في الشعر ولكن أي شعر؟ ما هي طبيعته؟ وما هي مكوناته؟ وما هي مقوماته؟ وما هي أهدافه؟ وما هي الوظيفة التي يؤديها في النفس والمجتمع؟ وما هي الغايات التي يتوخاها منه قائله؟.. وإنها لآيات تعبر عن موقف عدائي من الشعراء ولكن من هؤلاء الشعراء؟ من هم في أنفسهم؟ ما هو بناؤهم العقدي الذي يصدرون عنه؟ وما هي طبيعتهم السلوكية؟ وكيف هي حالهم العقلية؟ وما هي تركيبتهم النفسية؟ وما هو تفكيرهم؟ وما هي الأولويات عندهم؟ وما هو تصورهم الإنساني ؟ وما هو وضعهم الاجتماعي؟..

ثم إن هذا الفهم لا يعبر إلا عن معنى أحادي قاصر وهو مفهوم الجزء الأول من الآيات فقط، وحتى لو اقتصر الذكر الحكيم عليها لما تغير في الأمر أي شيء إذا كان الفهم أعمق والتأويل أصوب والرؤية أوضح وبدون خلفيات سوء، إذ هي آيات تكفي من أسلوبها الموحي وطريقتها الخاصة ودلالتها المستوحاة، تكفي نفسها بنفسها وتبين المراد والمقصود الذي من أجله أنزلت الآيات وسميت السورة.. إنها تعبر تعبيرا معجزا ومناسبا للبناء الأسلوبي القرآني الذي تميز ببيانه البلاغي الرائع وتصويره اللغوي الأخاذ الذي يملك على المتلقي لبه وفؤاده، إنها تصور القضية بالوجهين معا:" لا " و" نعم " في الآن نفسه.. وأما أسلوب الاستثناء الوارد في الآية، لا يعتبر وروده – في رأيي وأسأل الله أن أكون مصيبا فيه- إلا للمزيد من التوضيح والتبيين ودفع كل لبس، وكذلك لترغيب العناصر المؤمنة – وهذا هو المهم فالإسلام أتى ليعطي البديل الحضاري، وليس للوقوف في وجه ما هو مطروح في الواقع المعيش وقوفا سلبيا -(ثامنا) في حمل الأمانة الشعرية/الإبداعية بصفة عامة من أجل الانتصار لدين الله عز وجل بناء على قول الرسول صلى الله عليه وسلم -اهجوا بالشعر إن المؤمن يجاهد بنفسه وماله، والذي نفس محمد بيده، كأنما تنضحونهم بالنبل- (9).. إن هذا الجزء من الآيات الذي توهم منه بعض الدارسين ما توهموه من أن الإسلام يقول "لا" هو ذاته يكفي للتدليل على الرأي المخالف لرأيهم والذي يقول بـ: "نعم".. إذ لما أطلقت الآيات لفظة الشعراء قيدتها أولا بسياق دلالي يتميز بقيد محدد وواضح المعالم هيأت له السورة نفسها ابتداء من الآية رقم 210 من قبل في قوله تعالى:- وما تنزلت به الشياطين وما ينبغي لهم وما يستطيعونإلى الآية رقم 222 التي تقول:"هل أنبئكم على من تنزل الشياطين * تنزل على كل أفاك أثيم *يلقون السمع وأكثرهم كاذبون" + والشعراء...- وثانيا بوظيفته المنبثقة بطبيعة الحال من مصدره والتي تعبر عن حالة نفسية واجتماعية.. هذا القيد الثاني جاء في الآية عبارة عن تصوير أخلاقيات وسلوكيات نابعة من طبيعة نفسية منحرفة- يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون ..- 

والأتباع يجسدون طبيعة المتبوع، والمقتدون نسخة قد تكون أقل أو أضعف من المقتدى بهم.. فإذا ما انتفى القيد السياقي الذي هو عبارة عن ذكر لمصدر الشعر في اعتقاد العرب قديما(10) - وليسوا هم السباقين في ذلك –(11) وانتفت الوظيفة التي تعبر عن الحال النفسية والاجتماعية.. إذا ما انتفت هذه الأشياء انتفت الشيطنة والغواية والضرب في كل وجهة.. ومن ثمة ترفع عن الشعراء الملامة.. ولكن يأبى الحق سبحانه إلا أن يزيد الأمر إيضاحا وتبيانا فيستثني من يشاء بأسلوب بديع معجز في قوله تعالى ليختم السورة الكريمة بعد ذكر الآيات السابقة جميعها:- إلا الذين أمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون -.. فكأني بهذه الآيات جاءت لتفصل في أمر عظيم في زمن عظيم وفي مكان عظيم، فكأنها نزلت في جو مشحون بصراع مرير، وملئ بمواجهات حادة في واقع جديد وزمن مختلف، أضحى فيه الصراع على مستوى السنان وكذا على مستوى اللسان على مستوى تغيرت فيه الاستراتيجيات، وتبدلت فيه طبيعة أخذ المبادرة.. فبعد أن كان الصراع مفروضا من جانب واحد في العهد المكي على يد المشركين بحكم أنهم الأقوى، أصبح المسلمون في المدينة هم أصحاب المبادرة.. فكان لزاما على المسلمين – بمنطق الآية والأحداث - بموازاة مع انتصاراتهم في ميادين القتال بالسيوف والنبال والرماح أن ينتصروا في ميدان السجال بالشعر والأدب واللغة.. لهذا نلحظ في ختام الآية قوله تعالى: - وانتصروا من بعد ما ظلموا، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون -.. فهذه الإشارة بالتكرار أو التركيز على مسألة الظلم يمكن اعتبارها مفتاحا لهذا النص القرآني الكريم.. فالشعراء ينقسمون بموجبه إلى فئتين: فئة ظالمة وأخرى مظلومة، فالظالمة حددت لها صفات ونعوت تعرف بها.. والمظلومة تميزت بخصائص ودلائل تفرزها..

إن الظالم كما تصوره الآية منهجه في الحياة أنه لا يرعوي ولا يتوانى في اختيار أي طريق يحقق من خلالها كل مآربه، ولو كانت على حساب الآخر لا يهمه، فهو لا يفكر في غير ذاته لذا يسلك جميع المسالك المشروعة وغير المشروعة، والمتاحة وغير المتاحة، والبسيطة والمعقدة، والنافعة والضارة، ويجتاز كل السبل ولا يبالي بالعواقب ولا يفكر في المصير أو المآل، ويتوسل ما وسعه من الوسائل دون أن يكون مقتنعا بها في أغلب الأحيان، ولكن يقوم بذلك من أجل بلوغ أهدافه والحصول على رغباته والوصول إلى غاياته وإرضاء شهواته من أقصر السبل وأسهل المسالك كما تبدو له هو ويتوهم يبني كل ذلك على قاعدة: "الغاية تبرر الوسيلة".. إنه يهيم في كل واد ويتحرك على كل الأصعدة ويمشي في كل اتجاه ويضرب على كل الأوتار ويستغل كل الظروف وينطلق من كل المستويات، وإن كان في كثير من ذلك غير مقتنع بما يعمل، بله ويكون عارفا ومتحققا من سوء ما يفعل.. ولكنه يقول ما لا يفعل، ويخالف فعله ما يقول.. فلا تجد له رأيا يستقر عليه أو مبدأ يأوي إليه أو مرتكزا يتوكأ عليه.. إنه شخصية متقلبة المزاج تنطوي على مكونات نفسية مختلفة ومتصارعة ومتناقضة لا تتركه يثبت على شكل أو يقر له قرار أو يبقى على هيأة، بل يتقلب في حياته كالماء في القدر على النار.. هذه حال من ليست له ضوابط تقيم حياته أو ترسم له رؤية فاضلة يسير وفقها، أو تبعث فيه الجوانب الإيجابية النابعة من الفطرة السليمة التي فطر الله الناس عليها، أو تحيي فيه مكامن الخير والفضيلة المبثوثة في أصل الإنسان..

إن من كانت حاله على الشكل الذي رسمته آيات الشعراء فماذا يرجى منه بعدها؟ وما الذي يمكن أن يقدمه أولا لنفسه هو؟.. وماذا يمكن أن يبذل لمن هم قريبين منه ومحيطين به من الأهل والآل؟.. وماذا يمكن أن يعطيه لقومه وعشيرته وبني جلدته؟.. ومن ثمة كيف ستكون حال الذين اتبعوا مسلكه واقتفوا أثره وانتهجوا منهجه قولا وفعلا وتأثروا به فكرا وسلوكا، بله وتأثروه في كل دقيقة وصغيرة، فأصبحت نظراتهم ورؤاهم تابعة لما أنتجه الشاعر من شعر أو الأديب من أدب؟..

شعراء.. وشعراء..:

إن لفظة الشعراء الواردة في الآيات – أو لفظة الأدباء - إذا جاءت بصيغة العموم فإنها داخل السياق وفي علاقتها بالتركيب أصبحت بصيغة الخصوص.. إنها لفظة عامة ومطلقة ولكنها في النص القرآني هذا صيغت مقيدة بمجموعة من الخصائص مما جعلها خاصة ومحددة.. فالذم والتقبيح والتشنيع ليس على اللفظة في حد ذاتها أو على عموميتها أو إطلاقيتها وإنما على ما خصصها وقيدها ونعتها ووصفها.. لذا جاءت اللفظة نفسها مستترة في سياق النص خلف الاسم الموصول الدال على الجماعة " الذين " بعد أداة الاستثناء " إلا " محمودة ومقبولة ومرغوبا فيها..
إذن لفظة "الشعراء" كما وردت في النص القرآني توحي بأنها تسير في اتجاهين حسب الصفات والعلامات.. لتدل على حالتين بشريتين متناقضتين، إحداهما مرفوضة للأسباب التي أوضحناها سلفا، والثانية مقبولة لكونها لا تقبل أن تكون إمعة على أساس قول رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم: - ‏لا تكونوا ‏ إمعة، ‏تقولون إن أحسن الناس أحسنا، وإن ظلموا ظلمنا ولكن وطنوا ‏ ‏أنفسكم، إن أحسن الناس أن تحسنوا وإن أساءوا فلا تظلموا -‏(12)


إذن هناك حالتان بشريتان أو إبداعيتان إذا شئنا القول: حالة جبلت على الشر، ولا يحلو لها غير اللعب في الماء العكر، اطمأنت إلى حياة الدعة والمجون وهتك الأعراض والخوض في كل قيل وقال، والذهاب في كل مذهب اعتقادا منها بوجوبيته، أو سلوك كل مسلك ضدا على مناوئيه، أو اللعب على كل الأوتار دون مراعاة لحسن الخلق أو تمييز بين حق وباطل أو تفرقة بين صدق وكذب، ودون التفكير في الحياة الفاضلة بالعمل على غرس الفضائل وجني المكارم.. بله كان أغلب هذه الفئة التي تعبر عن هذه الحالة البشرية، كان كل همها التنفيس عما يعتمل في نفسها ولو على حساب أنفس أخرى، والترويح عن ذاتها ولو بأذية الآخرين.. إنها حالة بشرية شاذة في سلوكها، تتوجه إلى الهاوية وتدعو غيرها إلى الكارثة، وتجرها بشتى الأساليب الجذابة والمثيرة متوسلة اللغة المكتوبة أو المسموعة أو الإشارة أو العلامة أو الصورة وكل ما هو سمعي بصري..

ثم إن المدعو نفسه قد يستجيب لهذه الدعوة بكل سهولة وبساطة ويسر ودون أي ضغط من المرسل لما يتميز به ذلك المدعو أو المتلقي بشكل عام من سرعة التفاعل مع كل مثير طواعية واستجابة لما تكنه نفسه هو الآخر، أو بدون تفكير في العواقب.. ثم هناك ما سبقت الإشارة إلى طبيعته في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم "الإمعة"، لذا كان الخطاب القرآني بفعل "يتبعهم"–بتشديد التاء وبتخفيفها- للدلالة على أن الغاوين لم يكونوا كذلك لولا استعدادهم النفسي لتقبل ما ينظمه الشعراء وما ينشدونه من مضامين نابعة من صميم البيئة الجاهلية التي يعيشونها والتي تحيط بها الغواية من جوانبها جميعها.. ولولا رغبتهم في الاتباع والتقليد الذي يصل إلى حد التماهي من كثرة ما يرددونه في حالات نشاطهم وتجمعاتهم وسمرهم وحتى أتراحهم.. ولولا تعلق قلوبهم بمثل ما يروجه الشعراء أو يتحلوا به من أخلاق وأعمال تناقض الأقوال خاصة وأن عامة الناس دائما يحاولون التشبه بمن يرونه في القمة وذا بال في المجتمع.. والمشهور أن الشعراء كانوا يتبوءون أعلى الدرجات في الجاهلية وقبل انتشار الإسلام على أفق الجزيرة العربية.. يقول ابن رشيق: "كانت القبيلة من العرب إذا نبغ فيها شاعر أتت القبائل فهنأتها، وصنعت الأطعمة، واجتمعت النساء يلعبن بالمزاهر كما يصنعون في الأعراس، ويتباشر الرجال والولدان لأنه حماية لأعراضهم، وذب عن أحسابهم، وتخليد لمآثرهم، وإشادة بذكرهم، وكانوا لا يهنؤون إلا بغلام يولد، أو شاعر ينبغ فيهم، أو فرس ينتج "(13).

إذن هذه هي الحالة الأولى التي تصورها الآيات.. وفي المقابل نجد حالة بشرية أخرى تتميز فئتها بصلتها بربها جل ثناؤه والتزامها بدينه، وإيمانها بمبادئ الحق والعدل، وبيعها لنفسها ومالها من أجل الجهاد في سبيل الله تعالى ذكره، فهي تؤمن بالله عز وجل إيمانا عميقا وتوحده توحيدا تاما، وتعمل بمقتضى هذا الإيمان وهذا التوحيد، فلا يختلف فعلها عن قولها، ولا ينأى قولها عن فعلها، كما يجسد ذلك شيخ الإسلام الحسن البصري رضي الله عنه حين قال: "ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل، وإن قوما يتمنون على الله الأماني حتى خرجوا من الدنيا ولا حسنة لهم وقالوا كنا نحسن الظن بالله وكذبوا لو أحسنوا الظن بالله لأحسنوا العمل" (14).. هذه هي الفئة التي تعبر عنها الآية الكريمة: -الذين أمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا-.. أمنوا وعملوا الصالحات إيمان وعمل صالح وجهان لعملة واحدة، بدون أحدهما تكون العملة مزيفة ولن تتداول في السوق ولن يكسب بها أو من ورائها أي خير.. ولكي تبقى هذه العملة جديدة ونقية من كل الشوائب: "وذكروا الله كثيرا" كيف يذكرون الله كثيرا؟ أيذكرونه في كلامهم كما قال ابن عباس رضي الله عنه؟(15) أيذكرونه في شعرهم كما جاء عن ابن زيد؟(15) أم يذكرونه في جميع أحوالهم كما ورد عن أبي جعفر؟(15) لماذا "وذكروا الله كثيرا "؟ ألأنهم شعراء ومن خصال الشعراء أنهم في كل واد يهيمون ويقولون ما لا يفعلون مما أوجب كثرة الذكر لجب ما سبق؟ أم هي كثرة ذكرية ربانية لمواجهة كثرة شعرية مختلفة قال عنها المصطفى صلى الله عليه وسلم: - لإن يمتلئ جوف أحدكم قيحا يريه خير من أن يمتلئ شعرا - (16)؟

يبدو أن الذكر الكثير يشمل كل هذه المعاني كما جاء عن أبي عبيدة عن أبي عبد الله قال: "من أشد ما فرض الله على خلقه ذكر الله كثيرا، ثم قال: لا أعني "سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر" وإن كان منه، ولكن ذكر الله عندما أحل وحرم، فإن كان طاعة عمل بها وإن كان معصية تركها" (17)

إن الذي يذكر الله كثيرا يكون قلبه بالضرورة مطمئنا أكثر لقوله تعالى ذكره وجل ثناؤه -ألا بذكر الله تطمئن القلوب-(الرعد:29 ) وإذا كان القلب مطمئنا أكثر كانت الجوارح تبعا لذلك مطمئنة أكثر، وعليه فكل ما يصدر عنها يكون مدعاة للطمئنينة أكثر، جاء من حديث طويل عن الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم:-ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب-(ثمانية عشر) وكل عضو في الإنسان ظهر أم بطن يمكن أن ينسب إليه الإبداع سيكون تبعا وخاضعا لقاعدة هذا الحديث، وكل عضو في جسم أو حياة الإنسان إلا ويذكر الله تعالى، ويذكره بالطريقة التي تناسبه تماما كما هي الحال بالنسبة لسائر المخلوقات والكائنات التي تذكر الله وتسبحه وتوقره كل بطريقته ولكن لا نفقه تسبيحهم... قال جل ثناؤه :-يسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا(الإسراء:44 ) كل عضو أو جريحة وكل بعد في الإنسان إلا ويذكر الله بالشكل الذي يلائمه والحال التي تجلي ذلك الذكر في الشكل الذي يجب أن يتجلى فيه.. ومن ثمة يكون الإبداع خاضعا لذكر الله بمعناه الشمولي حسب مصدره الذي يتعاطى مع ذكر الله بما يناسبه.. هي إذن فئة من المبدعين تذكر الله كثيرا في كل أحوالها مما يبعدها عن الشطط، ويجعلها مطمئنة وتنتصر للحق وتدافع عن العدل بكل ما تملك من قوة وسلاح وحتى بالكلمة الملتزمة/الهادفة كما كان الشأن بالنسبة لحسان بن ثابت وعبدالله بن رواحة وكعب بن مالك وغيرهم من الشعراء الصحابة –وما اكثرهم- الذين قال فيهم الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم: -إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه، والذي نفسي بيده لكأن ما ترمونهم به نضح النبل-(19)..

وبعد فيمكن أن نأخذ ما سلف ذكره على هذا الشكل ليتيسر جمع ما تفرق قبل أن نستطرد في الحديث عما يمكن أن نستخلصه من آيات سورة الشعراء:




وننتقل الآن إلى تفكيك مضامين هذا النص القرآني الكريم لنستشف منه ما يزخر به من معان لطيفة منها:

*إن الآيات تخاطب القارئ / المتلقي ليكون على علم بوجود حالتين متناقضتين لا يجمع بينهما سوى لفظة "الشعراء" أما من حيث التوجه العقدي والمنحى الفكري والنظر العقلي والتصور الوجداني والفعل السلوكي والعلائقي فيظهر الاختلاف ويبرز التباين وتتضح الفروق إذ لكل وجهة هو موليها في إبداعه انطلاقا من وجهته العقدية ومكوناتها.. وهذه التفرقة تساعد المتلقي الملتزم على فهم طبيعة كل واحد أو كل فئة من الشعراء على حده ومن ثمة سيكتسب الأدوات التي تمكنه من معرفة الحق والباطل، والصدق والكذب، والإيمان والكفر، والعدل والظلم.. عندما يتعامل مع الإبداع الأدبي ويقومه، كما سيجعله يتعاطى مع كل المذاهب دون خوف أو وجل لأنه سيكون محصنا أو هكذا يجب أن يكون، ومن ثمة يستطيع أن يقيمها وأن يقومها دون أن يتأثر بسلبياتها، ودون أن يجعل أيضا من إيجابياتها نبراسا له إلا أن يكون قد تأكد من إيجابيتها فعلا وأصبحت في مستوى الحكمة المطلوبة، وبذلك سيحافظ على هويته الإسلامية دون أن يفقد منها شيئا وهو لا يدري.. وهذا هو الفهم الصحيح والتأسي الحقيقي بقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف: -الكلمة الحكمة ضالة المؤمن فحيث وجدها فهو أحق بها-(20). لقد شاع نص هذا الحديث الشريف في بعض الكتابات الإسلامية المعاصرة بشكل يثير الاستغراب والعجب لما يلف فهمه وتوظيفه من غموض وعدم إدراك لحقيقة موقعه.. فالحكمة يجب فهمها انطلاقا من بنية الإسلام ككل وليس كمفردة في نص فريد.. إن الحكمة مرتبطة بالمشيئة الإلهية لذلك يجب عرض الكلمة أو الفعل الذي نحن أحق بأخذه، أن نعرضه على هذه المشيئة لمعرفة إلى أي حد هي أو هو من الحكمة.

هذا من جهة ومن جهة أخرى، فإن الحكمة خير كثير، ثم هي ترتبط بالألباب والعقول.. كل هذا جاء مسطرا في القرآن الكريم في قوله سبحانه: "يؤتي الحكمة من يشاء * ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذكر إلا أولوا الألباب"(البقرة: الآية مائتان وثمانية وستون)، وفي هذا إشارة إلى أن الذي يريد أن يجد هذه الضالة وأن يكسبها وأن يصبح مالكا لها لأنه أحق بها من غيره، فعليه أن يدرك هل فعلا ما يريده يوافق مشيئة الله تعالى من خلال الموافقة الشرعية، هذا من الناحية النقلية، وهل يحمل ذلك الخير الكثير الذي أشارت إليه الآية وهذا من الناحية الوظيفية، وهل إذا عرض على أولي الألباب تمت الموافقة عليه وهذا من الناحية العقلية.. هل ما أعتبره أنا حكمة يمكن أن يكون كذلك عند سواي.. لأن شرط الموافقة الشرعية والوظيفية والعقلية إذا تحقق في شيء لا يمكن أن يختلف فيه، أما إذا اختلف فيه فقد يكون في أمر الحكمة ما ليس حكمة مطلوبة حسب درجة تحقق الشرط.. ومن ثمة فسوف نقع في مضمون ما قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: -مثل الذي يسمع الحكمة ويتبع شر ما يسمع ، كمثل رجل أتى راعياً فقال له: أجزرني شاة من غنمك؟ فقال: اذهب فخذ بأذن خيرها شاة، فذهب فأخذ بأذن كلب الغنم -.(21).
ثم إن الخير الكثير لا يثبت إلا بالتجربة أو كثرة التجارب أي الخضوع للمحك الذي يصادق على حكميتها وهو الواقعية التي هي من خصائص هذا الدين العظيم، ومفهوم التجربة في ارتباطها بالحكمة مفهوم إسلامي محض مأخوذ من الحديث الشريف لا حكيم إلا ذو تجربة- (22).

فالحديث الشريف إذن ينفي الحكمة عمن ادعاها، إذا لم تتوفر فيه عوامل التجربة التي تعتمد على الواقع الذي من خلاله تتم عملية الممارسة التي هي الأخرى تحتاج إلى تراكم يتم بفعل تداول الأيام، ومن هنا يتمكن الممارس أو المستند إلى مماراسات الغير من الاستفادة بعد أن يحول ذلك التراكم الذي تم على مستوى الممارسة أي التراكم العملي الفعلي إلى تراكم علمي ومعرفي، وبناء عليه يستطيع معرفة ما هو إيجابي ومقبول وما هو سلبي ومرفوض..

* إن المجتمع الجديد الذي يصنع على عيني الإسلام والذي يجب أن يضبطه تصور جديد للحياة والكون والوجود والإنسان، وأن ترسخ فيه أفكار جديدة تؤطر الواقع المنشود، وأن تحكمه منظومة مخالفة تمام المخالفة لتلك التي كانت قبله من البدء والمنطلق إلى الأهداف والغايات مرورا بالإجراءات والأدوات والكيفيات.. وقد يبقى لبعض أهل هذا المجتمع الذي هو في طور الإنشاء شيء أو نوع معين من الارتباط أو الصلة أو العلاقة بمكونات الزمن البالي الذي كان قبله ولو من بعض المناحي فقط.. إما في شكل بقايا حفرت في الأنفس بفعل التقادم تحتاج إلى وقت طويل كي تجثت.. وإما في شكل تقليد لم يهتم به حتى أضحى عادة تجرى مجرى الدم يصعب التخلص منها.. وإما في شكل رؤية غير واضحة لأن معالمها لم تكتمل بعد في زمن معين.. مما جعل الشارع الحنيف يبين ويوضح في إطار اهتمامه بكل شؤون الحياة ومنها الإبداع الأدبي الذي هو جزء لا يتجزأ منها، ليضع فواصل يفصل بها بين الارتباط بالقديم في هذا المجال والتطلع إلى الجديد.. فالعرب – إن صح حديثا شريفا – "لا تدع الشعر حتى تدع الإبل الحنين"(23) ولن تدعه أبدا لأنها دأبت على الاهتمام به حتى أصبح –كما جاء عن عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه- "علم قوم لم يكن لهم علم أصح منه"(24).. وكما ورد عن ابن عباس رضي الله عنه: "الشعر ديوان العرب" (25).. أو كما قال ابن سلام الجمحي: "كان ديوان علمهم ومنتهى حكمهم به يأخذون وإليه يصيرون"(26) بله إن عبد الله بن قتيبة يذهب إلى أن الله سبحانه وتعالى: "أقامه مقام الكتاب لغيرها وجعله لعلومها مستودعا ولآدابها حافظا ولأنسابها مقيدا، ولأخبارها ديوانا لا يرث على الدهر ولا يبيد على مر الزمان"(27) وهكذا بقي العربي على صلة بالشعر إنشادا واستنشادا، وعلى ارتباط وثيق بالشعراء اهتماما واحتفاء حتى بعد أن التزم بالإسلام..

لا بد أن بعض الرواسب بقيت عالقة بذهن العربي مؤثرة في سلوكه حتى بعد إسلامه، ومنها إنشاد الشعر كيفما كان، وإنشاؤه على الشكل والطريقة التي عليها كان، فجاءت الآيات في الشعراء لتوضح أن الغواية كل الغواية في اتباع الشعراء والتأثر بالشعر دون تمحيص أو فرز أو روية أو إعمال فكر أو إنعام نظر أو تحاكم إلى الشرع خصوصا وأن شعر تلك الفترة يغلب عليه ما جاء الإسلام لمحاربته ومقاومته مع الإشارة إلى – ودون أن ننسى - أن فترة ما قبل البعثة النبوية أي فترة الجاهلية كانت فيها عناصر حاولت أن تحافظ على ما تبقى من دين سيدنا إبراهيم عليه السلام كانوا يسمون الحنفاء الذين يتألهون ويتعففون - كما ذكر ابن سلام - "من الشعراء من يتأله في جاهليته ويتعفف في شعره ولا يستبهر بالفواحش ولا يتهكم في الهجاء"(ثمانية وعشرون)، ولكنها قلة قليلة لا ترقى إلى أن تكون قدوة للمتلقي الذي يعيش حياة كلها على العكس مما تعيشه هذه الطائفة من الحنفاء..

ويبدو هذا النوع من الارتباط، وتتجلى معالم هذه الصلة بالقديم المنهي عنه من خلال هذا الحدث الذي جاء على شكل حديث نبوي شريف يروى فيه:- أن جويريات كن يضربن بدفوفهن ويغنين ويندبن من قتل يوم بدر بشعر رثائي فقالت إحداهن: "وفينا نبي يعلم ما في غد" فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم:" اسكتي عن هذه وقولي التي كنت تقولين قبلها - (29).
* ثم إن في الآيات إشارة خفية إلى وجوب اتخاذ الشعر والشعراء وسيلة إعلامية إسلامية بالإضافة إلى الوظائف الأخرى المنبثقة من طبيعة العملية الإبداعية نفسها ومن الانتماء العقدي.. نستشف هذا من خلال تمعننا في مستهل الآيات الكريمات: -والشعراء يتبعهم الغاوون لقد كان من الممكن أن تذكر الآيات الشعراء وتتحدث عنهم وتصفهم كمبدعين فتقول على سبيل المثال مباشرة دون ذكر الآية السابقة: -ألم تر أن الشعراء في كل واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون-–وهم قلة بالمقارنة مع العامة– دون الإشارة إلى غيرهم من المتلقين ولا إلى موضوع التبعية أصلا، ولو أن الآيات فعلت ذلك لفهم منها أنها تتحدث عن المضامين والموضوعات التي يتداولها الشعراء والأدباء. وبذلك يتم النظر في ما تحمله أشعارهم وإبداعاتهم من رسائل فقط.. إلا أن القضية أوسع من ذلك، أوسع من الحديث عن المضمون أو المحتوى، على اعتبار أن المضمون أو المحتوى أو الموضوع الذي لا يأتي ممتطيا شكلا متميزا ومؤثرا، ولا يجيء ممتشقا بناء جذابا لا يعقل أن يجد له أتباعا أو متأثرين لا من بعيد ولا من قريب، ولا يمكن حينها أن تذكر الآية أولائك الغواة التابعين ولن يكونوا كذلك إلا إذا وجدوا ما يتبعون والذي لا يمكن أن يتجلى لهم إلا في شكل مغر على الاتباع.. ولكن الأهم هو ما أنتجه هؤلاء المبدعون وأبدعوه من فن القول فأمالوا به قلوبا متيمة به تأخذها أضواؤه، وأخذوا به أفئدة عاشقة له تأسرها أشكاله، فتذهب مع كل صيحة تزين وجهها بالمساحيق الخادعة، وتميل مع كل ضجة إعلامية مزركشة يقوم بها الشعر/الأدب والشعراء/الأدباء في الأسواق والأندية، أو في الأفراح والأتراح، أو في ميادين الحرب والقتال..

إن الدعاية العريضة والمكثفة موضوعاتيا، مع التفنن في اختيار وسائلها وانتقاء أبدع صورها وتوشيحها بأبهى الحلل ليؤثر أبلغ تأثير في النفس والمجتمع.. ويظهر هذا جليا في ما ورد علينا من أخبار توضح مدى تأثير الإبداع الأدبي بتركيبته الحية من المعنى والمبنى (كالماءH2O) في حياة الأفراد والجماعات، فكم من علو شأن بعد دنو تم ببيت شعر أو قصيدة سارت في الأمصار والعكس صحيح أيضا.. وهذا ما رواه المؤرخون في أخبار كثيرة تتحدث عن أناس رفعهم الشعر في الجاهلية وعن أقوام أزرى بمكانتهم، وهذا بفضل الإبداع الأدبي وسيلة إعلامية تروج للأهداف في الأسواق والمجاميع والطرقات.. وكان ممن اشتهر من الذين رفعهم الشعر بعد خمول في الجاهلية المحلق بن حنتم الكلابي..(30).

إذن يمكن اعتبار آيات الشعراء نوعا من التحريض لاتخاذ الشعر خاصة والإبداع الأدبي عامة في دولة الإسلام لاستمالة الناس ودعوتهم إلى الله عز وجل وإخراجهم من الغواية إلى الهداية، ومن الضلال والتيه إلى الإيمان والاستقرار على منهج التوحيد وطريق التصور الإسلامي الصافي من كل الشوائب، ومن الخوض في المتاهات والضرب في كل الاتجاهات إلى التركيز على الهدف النبيل والغاية الفاضلة.. ولن يتحقق هذا الأمر بالمباشرة فهذا له مجال آخر يعمل فيه بأسلوب مخالف غير الإبداع الأدبي الذي لا يمكن أن يتجرد من كسائه الذي يتميز بالفنية والبلاغية المؤثرة جماليا، التي لا تنفصم عن الموضوعات والمضامين المؤثرة إقناعيا "وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا"(النساء:62).

* إن الآيات بمثابة تحريض على الجهاد، وعلى الدخول في حرب كلامية/إعلامية ضد أعداء الدين بموازاة مع الحرب العادية/السلاحية.. فلا يعقل أبدا أن يتخذ المشركون والكفار واليهود الشعر/الأدب (31) وسيلة لتشويه الرسالة وهجاء الرسول صلى الله عليه وسلم ومهاجمة المسلمين والتغزل بالمسلمات الطاهرات، وتحريش الأوباش ودفع العامة لمحاربة الإسلام ومنازلة معتنقيه..، ثم يبقى المسلمون مكتوفي الأيدي مبتعدين أو مبعدي أنفسهم عن أي وسيلة ناجعة من وسائل الحرب والكيد للعدو ومنازلته ومقارعته ودمغه بالحجج والأدلة ودحض أقواله ومواقفه الشنيعة ، ثم إثبات الحق وإقرار العدل وإعطاء الرأي العام حقيقة الإنسان والكون والحياة والوجود والكائنات من خلال التصور الإسلامي بجلاء ووضوح تامين عن طريق الإبداع الأدبي المتمثل آنذاك في الشعر أرقى الأجناس الأدبية وأفضلها وأحبها إلى النفس وأقربها إلى الوجدان.. والذي رافق العربي وأثر بشكل بارز في عقله ونفسه ووجدانه وتفكيره وتدبيره(32).. 

ولقد نص الرسول صلى الله عليه وسلم على مثل هذا التأثير حين قال عليه السلام:-فلهو – أي الشعر – أسرع فيهم من نضح النبل أوأشد عليهم من وقع النبل- (33). وكذلك بالنسبة لكل ما هو منتم لمجال الإبداع ومتفرع عنه فإنه يدخل تحت غطاء الضمير المنفصل في الحديث الأول "هو" الذي لا يمكن أن يلبث معبرا عن الشعر وحده فقط، وإن دل على ذلك السياق، فهو ضمير منفصل حتى عن سياقه ليجعل تحت لوائه كل ما من شأنه أن يكون أسرع من نضح أو وقع النبل. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:-إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه ، والذي نفسي بيده لكأن ما ترمونهم به نضح النبل-(34) وكان صلى الله عليه وسلم يقول لحسان بن ثابت رضي الله عنه: "يا حسان أجب عن رسول الله، اللهم أيده بروح القدس"(35) "اهج المشركين، فإن جبريل معك" (36). 

فهل يعقل أن تترك هذه الطاقة الجياشة والفياضة والحيوية في الحياة البشرية وبشأنها الكبير والخطير وأثرها العميق والجليل في الإنسان بشكل عام والعربي بشكل خاص، دون أن تستغل أو أن توظف في الدعوة والجهاد والدفاع عن حياض الإسلام وأعراض المسلمين..؟؟؟ خاصة وأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يعرف مدى تأثير هذه الوسيلة لذلك عندما أسر أبو عزة يوم بدر كافرا وكان شاعرا وكان مملقا ذا عيال فقال: يا رسول الله، إني ذو عيال وحاجة قد عرفتها، فامنن علي صلى الله عليك. فقال: على أن لا تعين علي.. يريد شعره قال: نعم. فعاهده وأطلقه، فقال:

ألا أبـلـغ عـنـي النبي محمدا
وأنت امرؤ تدعو إلى الرشد والتقى
وأنـت امـرؤ بـوئت فينا مباءة
وإنـك مـن حـاربـته لمحارب
ولـكـن إذا ذكـرت بدرا وأهلها 
بـأنـك حـق والـمـلـيك حميد
عـلـيـك مـن الله الكريم شهيد
لـهـا درجـات سـهلة وصعود
شـقـي ومـن سـالـمته لسعيد
تـأوب مـا بـي حـسرة وتعود

فلما كان يوم أحد دعاه صفوان بن أمية بن خلف الجمحي وهو سيدهم يومئذ إلى الخروج، فقال: إن محمدا قد من علي وعاهدته أن لا أعين عليه. فلم يزل به، وكان محتاجا، فأطعمه، والمحتاج يطمع (قال له صفوان يومئذ: لك الله علي إن رجعت أن أغنيك، وإن أصبت أجعل بناتك مع بناتي، يصيبهن ما أصابهن من عسر ويسر)، فخرج، فسار في بني كنانة، فحرضهم، فقال

يا بني عبد مناة الرزام
*أنتم حماة وأبوكم حام
لا تعدوني نصركم بعد العام
*لا تسلموني، لا يحل إسلام

وأسر أبو عزة يوم أحد، فقال: يا رسول الله من علي.. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تمسح عارضيك بمكة تقول: خدعت محمدا مرتين.. فقتله(37).

* من جهة أخرى فإن الشعر وسيلة من الوسائل التي ترفع معنويات المسلمين وتطيب أنفسهم وتزكي وجداناتهم وتحثهم على العمل والجد وتشجع على مواصلة النشاط ونكران الذات من أجل تحقيق الصالح العام وما يخدم الدعوة إلى الله واستمرارها، فعن أنس يقول:

"خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الخندق فإذا المهاجرون والأنصار يحفرون في غداة باردة فلم يكن لهم عبيد يعملون ذلك لهم فلما رأى ما بهم من النصب والجوع قال:

اللهــم إن العيش عيش الآخـرةفاغفر للأنصار والمهاجرين فقالوا مجيبين له نحن الذين بايعوا محمدا على الجهاد ما بقينا أبدا.. (ثمانية وثلاثون). 

وعن سلمة بن الأكوع قال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر فسرنا ليلا فقال رجل من القوم لعامر: يا عامر ألا
تسمعنا من هنيهاتك؟ وكان عامر رجلا شاعرا، فنزل يحدو بالقوم يقول:
اللهم لولا أنت ما اهتدينا*ولا تصدقنا ولا صلينا
فاغفر فداء لك ما بقينا*وثبت الأقدام إذا لاقينا
وألقين سكينة علينا*إذا إذ أصبح بنا أبينا
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من هذا السائق؟" قالوا: عامر بن الأكوع.. قال: "يرحمه الله. قال رجل من القوم: وجب يا نبي الله.. لولا أمتعتنا به، فأتينا خيبر فحاصرناهم... (39). 

*إن في هذه الآيات أيضا تلميحا إلى جعل الشعر أداة مطواعة من أدوات العمل الصالح الذي يرافق حياة المؤمن ووسيلة من وسائل ربط العبد نفسه بربه سبحانه، والإكثار من ذكر الله على كل الحالات أثناء الحرب وفي السلم وفي المجالس والمجامع .. وأيضا وسيلة من وسائل الترويح عن النفس، ولكن دائما في حدود ما هو مشروع إسلاميا، خاصة وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى الفجر جلس في مصلاه حتى تطلع الشمس فيتحدث أصحابه يذكرون حديث الجاهلية، وينشدون الشعر ويضحكون ويبتسم صلى الله عليه وسلم(40)

ولا يجوز في حقه صلى الله عليه وسلم أن يستمع إلى منكر أو أن يصمت على منكر سمعه فيكون له بذلك مقرا، أو يبتسم لغير معروف، لاسيما وأن هذا الوضع تكرر مرارا ولم يكن من قبيل الصدفة أو الأمر العابر، فراوي الحديث جابر بن سمرة رضي الله عنه قال جالست النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من مائة مرة، فكان أصحابه يتناشدون الشعر .. الحديث.(41).

*
وأخيرا وليس آخرا لا بأس من الإشارة إلى أن الجزء الذي يمثل الرفض في آيات الشعراء يتجلى في ثلاث آيات (من 223 إلى 225) مع العلم أن كل آية تمثلها جملة قصيرة، وأن القبول تمظهر في آية واحدة (226) على الرغم من أنها طويلة.. مما يوحي بأن للرفض أسبابا متعددة، وهذا هو منهج الإسلام لا يرفض من أجل الرفض، كما لا يرفض لأتفه الأسباب.. وأن الرفض يبنى انطلاقا من زاويته المحدودة الصغيرة والضيقة، فهو يتحرى في الأمر على قاعدة: "الأصل في الأشياء الإباحة" بحيث يتخذ فيه القرار بالرفض عندما يصبح لا مفر منه ولا غنى عنه، لتجنب كل ما يحمله في طياته من سوء .. ثم إن القبول واحد موحد لا تعدد فيه وإن طالت طبيعته، لأنه يرتكز في أسسه على الحق، والحق واحد وإن تجلى في عدة أوجه وصور إلا أنه يحمل دلالة واحدة هي "لا ضرر ولا ضرار"..

هذه ثلة من المعاني اللطيفة التي تشع من نور هذه الآيات الكريمة من سورة الشعراء والتي جعلها بعضهم دالة كل الدلالة على عداء الإسلام للشعر والإبداع ومعبرة كل التعبير عن بغضه للشعراء والمبدعين.. وصورة واضحة المعالم للتنكيل بهم والتنقيص من فنهم وإبداعهم.. وهي كما علمنا آيات لا تقف إلى جانب المانع مطلقا، وليست مع المجيز مطلقا، بل فصلت في الأمر فوضعت الحدود، ورسمت الفوارق، وأرست القواعد، وضبطت المهام المنوطة بذلك، وحددت الوظائف وبينت معالم الحق وردت أشلاء الباطل، ورسمت للمسلمين طريق الإبداع تلك الطريق الشاسعة الواسعة التي لا يستطيع أحد أن يحيط بكل شعبها ودروبها وممراتها، لكنها فقط تتنفس عبير ما اعتنقوه عقيدة وشريعة وسلوكا ومنهجا.. "فالإسلام لا يحارب الشعر والفن لذاته (...) إنما يحارب المنهج الذي سار عليه الشعر والفن،" كما قال سيد قطب رحمه الله في تفسير الآية (42).. فما على الأدباء المسلمين إلا أن يصغوا إلى النداء المنبعث من آيات سورة الشعراء..

http://www.odabasham.net/images/adab18.gifhttp://www.odabasham.net/images/adab18.gif http://www.odabasham.net/images/adab18.gif

المراجع والهوامش:
1. بالجمع على اعتبار أن اللغة هي كل وسيلة يحصل بها نوع من التواصل الهادف، ومنها اللسان كما ورد في القرآن "بلسان عربي"، ومنها الإشارات والحركات والعلامات ومنها الصور والرسوم وغير ذلك..
2.
اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عايه الشيخان البخاري ومسلم وضعه محمد فؤاد عبد الباقي دار الباز مكة المكرمة الجزء الثالث الصفحة: 212..
3.
راجع مقدمة ابن خلدون ابتداء من الفصل الثالث والخمسين فما بعد.. المرجع السابق نفسه..
4.
سلسلة الأحاديث الصحيحة محمد ناصر الدين الألباني المجلد الرابع الصفحة 355 رقم الحديث 1761..
5.
انظر مجلة "القاهرة" المصرية العدد:10 تاريخ 09/04/1985 والعدد:13 تاريخ 30/04/1985..
6. "
نقد المركزية العقائدية في نظرية الأدب الإسلامي" لسعيد علوش دار أبي رقراق- الرباط /المغرب طبعة 2002 
7.
الأدب الإسلامي أصوله وسماته" محمد حسن بريغش دار البشير عمان الطبعة الأولى 1412هـ/1992م.. الصفحة:8
8.
هذا المنهج "العطاء قبل الأخذ" واضح من خلال نصوص كثيرة تبدأ بـ"عليكم بـ.."وتنتهي"وبإياكم و."على قاعدة قوله تعالى:" وما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا..".
9.
سلسلة الأحاديث الصحيحة الألباني المجلد الثاني الصفحة 436 الرقم:802
10.
انظر الفصل الرابع ابتداء من الصفحة: 47 من كتاب " جمهرة أشعار العرب في الجاهلية والإسلام" لأبي زيد القرشي تحقيق محمد علي البجاوي دار نهضة مصر القاهرة.
11.
يقول أفلاطون في محاورته "إيون": " ..فالشاعر لا يبدع إلا أن يلهم ويخرج عن رشده ويتخلى عنه عقله.." نقلا عن كتاب الرحلة التاسعة جبرا إبراهيم جبرا المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت/لبنان الطبعة 2 السنة 1979 الصفحة 138
12.
تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي المباركفوري صححه عبد الوهاب عبد اللطيف دار الفكر الطبعة الثالثة 1399هـ/1979م المجلد السادس الصفحة: 145/146 رقمه:2075 هذا حديث حسن صحيح وأخرجه أحمد والنسائي..
13.
العمدة في صناعة الشعر ونقده لابن رشيق القيرواني المكتبة التجارية – القاهرة/مصر الطبعة 2 السنة 1955 الجزء 1 الصفحة 65
14.
يروى حديثا بشكل آخر، انظر سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة للألباني مكتبة المعارف الرياض الطبعة الثانية 1408هـ/1988م الصفحة:217 .. إلا أنه في روايات ينسب للإمام حسن البصري رحمه الله ورضي عنه..
15.
انظر أواخر سورة الشعراء في "جامع البيان في تفسير القرآن" للإمام محمد بن جرير الطبري المتوفي سنة 310هـ..وهو مشهور بتفسير الطبري وطباعته كثيرة..
16.
صحيح البخاري بحاشية السندي دار المعرفة بيروت/لبنان 3/251 و4/21. وصحيح مسلم 7/50. وتحفة الأحوذي الترمذي 8/143
17.
جاء في آخر تفسير سورة الشعراء من كتاب "الميزان في تفسير القرآن" للعلامة محمد حسين الطبطبائي، وهو من علماء الشيعة..
18. "
اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان" إعدادا محمد فؤاد عبدالباقي دار الباز/مكة المكرمة الجزء 2 الصفحة:154..
19.
سلسلة الأحاديث الصحيحة مرجع مذكور المجلد الرابع الصفحة:172 الرقم 1631..
20.
رواه الترمذي انظر تحفة الأحوذي المجلد السابع الصفحة:458.. قال أبو عيسى هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه وإبراهيم بن الفضل المدني المخزومي يضعف في الحديث من قبل حفظه.. 
21.
رواه الإمام أحمد تتمة مسند أبي هريرة حديث رقم 9007..
22.
رواه البخاري موقوفا في "الأدب المفرد" دار الكتب العلمية لبنان الصفحة:83 باب التجارب.. ورواه الترمذي مرفوعا وقال حسن غريب وذكر المباركفوري أن الحديث "أخرجه أحمد في مسنده وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه، قال المناوي في شرح الجامع الصغير إسناده صحيح.." انظر تحفة الأحوذي الجزء السادس الصفحة 182..
23.
يروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتاب" العمدة " لابن رشيق مرجع سابق الجزء الأول الصفحة 30..
24.
طبقات فحول الشعراء لابن سلام الجمحي تحقيق محمود شاكر طبعة المدني/القاهرة الجزء 1 الصفحة 24..
25.
العمدة لابن رشيق المرجع نفسه..
26.
طبقات فحول الشعراء المرجع نفسه..
27.
تأويل مشكل القرآن أبو محمد عبد الله بن قتيبة شرح ونشر أحمد صقر المكتبة العلمية-المدينة المنورة الطبعة3/1981.الصفحة:18.
28.
العمدة لابن رشيق المرجع نفسه..1/41..
29.
تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي لمباركفوري 4/211.
30. "
كان الأعشى يوافي سوق عكاظ في كل سنة، وكان المحلق الكلابي مئناثا مملقا. فقالت له امرأته: يا أبا كلاب، ما يمنعك من التعرض لهذا الشاعر؟ فما رأيت أحدا اقتطعه إلى نفسه إلا وأكسبه خيرا. قال: ويحك.. ما عندي إلا ناقتي وعليها الحمل.. قالت: الله يخلفها عليك. قال: فهل له بد من الشراب والمسوح؟ قالت:إن عندي دخيرة لي ولعلي أن أجمعها. قال: فتلقاه قبل أن يسبق إليه أحد وابنه يقوده فأخذ الخطام.. فقال الأعشى: من هذا الذي غلبنا على خطامنا؟ قال: المحلق. قال: شريف كريم، ثم سلمه إليه فأناخه،فنحر له ناقته وكشط له عن سنامها وكبدها، ثن سقاه وأحاطت بناته به يغمزنه ويمسحنه. فقال: ما هذه الجواري حولي؟ قال: بنات أخيك وهن ثمان شريدتهن قليلة.قال: وخرج من عنده ولم يقل فيه شيئا، فلما وافى سوق عكاظ إذا هو بسرحة قد اجتمع الناس عليها وإذا الأعشى ينشدهم:
لعمري قد لاحت عيون كثيرة إلى ضوء نار بالـيـفاع تـحّـرق فـسلم عليه المحلق، فـقال له:مرحبا يا سيدي بسيد قومه. ونادى: يا معاشر العرب، هل فيكم مذكار يزوج ابنه إلى الشريف الكريم.. قال:فما قام من مقعده وفيهن مخطوبة إلا وقد زوجها " وذلك بالأشراف من كل قبيلة، فلم تمس منهن واحدة إلا في عصمة رجل أفضل من أبيها ألف ضعف..انظر "الأغاني" لأبي الفرج الأصبهاني دار الكتب العلمية لبنان مع تحقيقات واستدراكات وفهارس الطبعة 2/1992 9 /133 وكتاب "العمدة" 1/48.. وجاء في الخوف من فعل الشعر بكتاب " الأدب المفرد" للإمام البخاري عن أبي نجيد أن شاعرا جاء إلى عمران بن حصين فأعطاه.. فقيل له تعطي شاعرا؟ فقال: أبقي على عرضي" دار الكتب العلمية بيروت/لبنان الصفحة 51 – 52..
31.
أو أي شكل من أشكال الإبداع التي يتوسلونها لتشويه صورة الإسلام في بعض رموزه كما وقع في هذا العصر الأغبر بالرسومات الكاريكاتورية في بعض الدول الغربية وللأسف الإسلامية أيضا..
32.
انظر "كتاب الحيوان" لأبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ تحقيق عبد السلام هارون المجمع العلمي العربي الإسلامي/لبنان الطبعة الثالثة1388هـ/1969م.. الجزء الأول.. من الصفحة:364..
33. "
سنن النسائي"بشرح السيوطي وحاشية السندي تصحيح المسعودي دار إحياء التراث العربي/لبنان توزيع دار الباز مكة المكرمة الجزء 5 الصفحة 212.. وانظر "الأغاني" 4/143..
34.
سلسلة الأحاديث الصحيحة مرجع مذكور المجلد الرابع الصفحة:172 الرقم 1631..وجاء فيه: عن الزهري قال: أن كعب بن مالك حين أنزل الله تبارك وتعالى في الشعر. أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن الله تبارك وتعالى قد أنزل في الشعر ما قد علمت؛ وكيف ترى فيه ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه، وسنده صحيح.
35.
صحيح البخاري بحاشية السندي الجزء 3 الصفحة 30 .. وصحيح مسلم دار الفكر-لبنان ج 3 ص 189..
36.
صحيح البخاري مصدر سابق 1/90. وصحيح مسلم ج7 ص163. وجاء في "سلسلة الأحاديث الصحيحة" الألباني م:4 ص:618 (عن البراء بن العازب : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي فقيل : يا رسول الله ! إن أبا سفيان بن الحارث بن عبد المطلب يهجوك ، فقام ابن رواحة فقال : يا رسول الله ايذن لي فيه ، فقال : أنت الذي تقول : ثبت الله ... ؟ قال نعم ، قلت : يا رسول الله _ فثبت الله ما أعطاك من حسن _ تثبيت موسى ونصرا مثل ما نصروا _ . قال : وأنت يفعل الله بك خيرا مثل ذلك . قال : ثم وثب كعب فقال : يا رسول الله : ايذن لي فيه . قال : أنت الذي تقول : همت ... قال: نعم ، قلت : يا رسول الله _ همت سخينة أن تغالب ربها _ فليغلبن مغالب الغلاب _ . قال : أما إن الله لم ينس لك ذلك . قال : ثم قام حسان فقال : يا رسول الله ! ايذن لي فيه ، وأخرج لسانا له أسود ، فقال : يا رسول الله ! ايذن لي إن شئت أفريت به المزاد . فقال : الحديث).
37.
وردت القصة عند محمد بن سلام الجمحي في "طبقات فحول الشعراء" 1/253و254و255..
38.
صحيح البخاري م.ن 3/35.
39.
صحيح البخاري م.ن 3/48.
40.
سنن النسائي نفسه 3/80. و"كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتناشدون الشعر في مجالسهم ويذكرون أمر الجاهلية فإذا أريد أحد منهم على شيء من أمر الله دارت حماليق عينيه كأنه مجنون" الأدب المفرد.. دار الكتب العلمية لبنان باب الكبر.ص:81..
41.
تحفة الأحوذي تفسه 8/142..
42.
انظر "في ظلال القرآن" لسيد قطب رحمه الله في تفسيره لأواخر سورة الشعراء ...

وللبحث بقية إن شاء الله تعالى

"PDF" تحميل ملف 

0 تعاليق:

إرسال تعليق