class='ads'>
الجمعة، مايو 29

"جمالية المكان الوظيفة الدلالية للبحر" دراسة لشعر الدكتور حسن الأمراني

جمالية المكان

الوظيفة الدلالية للبحر
قراءة في شعر حسن الأمراني
من: "مملكة الرماد"(*) إلى: "الزمان الجديد"(**)

=(كُتِبَ البحثُ عام 1999م ونشرت بعض أجزائه في مجلات متخصصة )=


 الأستاذ عبدالرزاق المساوي

أما قبل:

"كان المخاض عسيرا والنتاج شحيحا..."
عماد الدين خليل (***)

         يبدو أن "الإسلامية المذهبية الأدبية" أصبحت تفرض نفسها على الساحة الأدبية، وتدخل رويدا رويدا عالم الأدب المعاصر من بابه الواسع، مؤصلة ومبدعة وناقدة ومنظرة، متجاوزة مجموعة من العراقيل المادية والمعنوية التي طرحت أو ألقيت كأشواك عمدا في طريقها الذي شقته في السنوات الآخيرة.. ولعل أكبر دليل على اتساع رقعة انتشارها، ومدى قدرتها على احتلال المكانة اللائقة بها تلك الأعمال الأدبية التي تتقاطر من كل صوب وحدب من أنحاء المعمور، والتي تتوسل كل الفنون الأدبية بدون استثناء (شعرا كان أو قصة أو رواية أو مسرحية..) وبلغات شتى.. وذلك الصدى الذي أحدثته وخلفته من خلال إبداعها ونقدها وتنظيرها في كثير من الأنفس والعقول، سواء كان ذلك الصدى إيجابيا كميل ثلة من الأدباء العرب إلى تبنيها وتأييدها والتبشير بها، والعمل على الترويج لها، بديلا لهم ولغيرهم عما كانوا عليه من مذاهب ومشارب أدبية أخرى.. أو كإنشاء رابطة عالمية، أو لجن محلية إقليمية مهتمة بقضايا الإسلامية المذهبية الأدبية.. أوكإصدار مجموعة من المنابر الإعلامية التي تعنى بها متخصصة في شؤونها وقضاياها(1).. أو كان هذا الصدى سلبيا على بعض الأنفس المريضة، وليس على "الإسلامية"، والذي تجلى في الهزة النفسية التي أحدثتها هذه الأخيرة في بعض النفوس المعادية لها، مما دفعها إلى مهاجمتها والتشهير بها، ورفض كل حديث عن أصولها وتطورها عبر تاريخ الإسلام والمسلمين، ومحاولة النيل من أقطابها ونفي أن تكون للإسلام مذهبية أدبية معاصرة ينفرد ويمتاز ويتميز بها.. ومما غاض بعضهم أكثر، وأقلق بالهم وشوش على توجهاتهم، وأفقدهم صوابهم ظهور مثل هذا العنوان "الأدب الإسلامي المعاصر" على صفحات بعض المجلات أو الجرائد، فكانت ردة فعلهم عنيفة لاترتكز على علم يتبع أو معرفة تذكر أو قرع للحجة بالحجة أو مبارزة علمية شريفة، بقدر ما كانت تتكئ على سوء النية والتقدير، أو على الإفراط في الانفعالية السلبية المتسرعة، أو الاتباع للفكرة الغربية، أوالانتصار للمذهبية الفكرية الاستئصالية.. ونسي هؤلاء أو تناسوا أنهم في يوم من الأيام تعرضوا لمثل هذه الهجمات التي يرمون بها "الإسلامية" من معارضي طروحاتهم الأدبية من المذاهب الأخرى المعادية لهم، والتي كانت متمكنة يومها من الساحة الأدبية، وكان الهؤلاء لا يرجون غير الإنصاف آنذاك وإفساح المجال لهم للتعبير عن أنفسهم.. أما "الإسلامية" فلا ترجو من أحد شيئا لأنها في مقدورها أن تثبت وجودها لأنها تملك بطبيعتها مفاتيح الكونية..

أما بعد:

         إن أهم ما يمكن تقديمه – خدمة ودعما لهذه الحركة الأدبية الشابة وإخراجا لها من المخاض العسير والنتاج الشحيح في تقديرنا هو محاولة تتبع الإبداعات التي تصدر عن الإسلاميين، معرفين بها، أوناقدين لها، أودارسين لأصولها وأسسها، أوباحثين في بداياتها ومنطلقاتها، أومبرزين لدعائمها ومقوماتها، أوراسمين حدودا لآفاقها وتطلعاتها.. حتى نتمكن من تشكيل رؤية أدبية ونقدية وتنظيرية تمكننا من بلورة هذه "الإسلامية" ودعمها والدفع بها إلى درجة الإتقان والإحسان المطلوبين شرعا قبل أن يكونا مطلوبين فنا.. ومن ثمة يتم أولا التصدي بشكل فعلي وعملي لتلك الآراء الناكرة الناقمة، والأفكار الهادمة، والنظريات التي يحاول أصحابها أن يغمطوا بها حق "الإسلامية" في الوجود والتكوين والحياة... ويتم ثانيا العمل على ضبط نوع من التوازن الذي كان ينادي به أمثال الدكتور عماد الدين خليل الذي قال:*... إن حركة الأدب الإسلامي لبأمس الحاجة إلى الجهد النقدي(التطبيقي) لإضاءة النص.. ولقد أخذ يبدو أكثر فأكثر أن المعطيات الإبداعية أكبر بكثير من المتابعات النقدية، فإن لم يتحقق قدر من التوازن المطلوب، ويتم الاستيعاب النقدي بنسبة معقولة، فإننا سنخسر مرتين.. سنخسر الطاقات الواعدة التي تنتظر من يعكس صوتها(.....)، وسنخسر الفرصة الضرورية لتحسين أدائنا الإبداعي (....)* (2)

         وها نحن – في عجالة -  نقدم هذا الأنموذج النقدي/التطبيقي الذي يعتبر مجرد محاولة لقراءة متواضعة لبعض الأشعار التي جادت بها قريحة وشاعرية الشاعر الإسلامي الدكتور حسن الأمراني والتي من خلالها سنتناول قضية من القضايا الأدبية المهمة في الساحة النقدية المعاصرة، وهي"جمالية المكان" وذلك بتسليط الأضواء على ظاهرة الدال "البحر" في شعـر الأمراني وخاصة في ديوانيه:"مملكة الرماد" و"الزمان الجديد"، من خلال علاقاته بدوال أخرى في إطار بنية شمولية تتحكم في شعـر الإسلامية بشكل عام وشعر الأمراني بشكل خاص.. هذه البنية هي تلك التي أسميتها "بنية الغربة والعودة في شعر الإسلامية" (3)

جمالية المكان: مقاربة للمفهوم

         استطاعت مجموعة من الدراسات النقدية، والقراءات الأدبية المعاصرة أن تثير كثيرا من القضايا والمشكلات (أو الإشكاليات) والأسئلة المعرفية المتعلقة بالإبداع الأدبي، إما النابعة من طبيعته أو الناتجة عن بعض علائقه، وذلك من أجل إضاءة النص الأدبي.. حتى أصبحت تناقش قضايا جزئية تـنطلق منها كي تكون أو تؤسس فكرة كلية حول الإبداع بصفة عامة..

         وأظن أن الإبداع الشعري من أصعب أبواب الإبداع الأدبي والفني فتحا، ومن أخطرها اقتحاما، ومن أكثرها إلحاحا في طرح الأسئلة والإشكاليات والبحث لها عن ردود وأجوبة في الآن نفسه.. وإن أعقد الأسئلة الشعرية لهي تلك التي تثيرها طبيعته اللغوية من حيث الدلالة والإيحاء والوظيفة مع استغلاله لكل ما من شأنه أن يغني التجربة الشعرية.. وكذلك من حيث الترميز والتمثيل والتخييل وتوظيف الشخصيات والإحالة على (أو الإماءة إلى) ما هو تاريخي أو ما هو أسطوري..

         ولقد تشعبت النظرات، وتعددت القراءات، واختلفت الآراء، وتنوعت التحاليل، وتشابكت الاستخلاصات، وتضاربت النتائج، ومن ثمة أشبعت كثير من القضايا الأدبية والنقدية بحثا ودراسة.. إلا أن الملحوظ هو أن بعض القضايا النقدية الأخرى لم تلق ما تستحقه من الطرح والتحليل والدراسة، وما يجب لها من البحث والعناية، على الرغم من أنها فرضت ذاتها، وتجلت بوضوح في الإبداع الشعري المعاصر على الخصوص، وتناسلت عبر قنواته المتعددة، كما أنها استطاعت أن تثير فضول بعض النقدة المهتمين ولكن فقط أشاروا إليها أو أثاروها ضمن باب من أبواب النقد، هذا الأخير - للأسف - إما أنه لم يستفق بعد من غفلته، أو استعصى عليه أمر البحث في مثل تلك القضايا، أو أنه شغل نفسه بقضايا يرى أنها تعبر أكثر عن طموحه و أغراضه وطروحاته، أو أن تحيزه لفئة من المبدعين الذين قد لا يصل إبداعهم إلى إثارة تلك القضايا الشعرية بحدة كافية أو بجدية جلية، هوالذي حال بينه وبينها، أو أن بعض أصحاب الأقلام تركوا مثل تلك القضايا لأنها لا تسايرهم في ركبهم المذهبي أو الفكري أو الثقافي أو الانتمائي، أو هي نتاج مدرسة أدبية لا تعبر عن توجهاتهم في هذا الشأن بالوضوح الذي يتمنونه؟..

         على أي حال فإن الساحة الأدبية تتفاعل فيها مشكلات نقدية كثيرة، قديمة وحديثة، لابد أن يتمخض عنها في الزمن القريب أو البعيد انضباط نقدي تجتمع فيه قضايا رئيسة معدودة فنية وفكرية تخول لنا فتح مغاليق النصوص الأدبية وسبر أغوارها وضبط آلياتها وتفكيك مكوناتها ثم إعادة تركيبها وصياغتها من جديد في تشكيلات مختلفة..

         وإن " جمالية المكان " لمن القضايا النقدية المعاصرة المثيرة والمثارة في الوقت نفسه، إلا أنها لم تحض بالاهتمام الكافي والحفاوة اللائقة بها كقضية نقدية مهمة وقادرة على فك جانب كبير من جوانب المكونات الفنية والدلالية لكثير من النصوص الإبداعية، بمعنى آخر إنها لازالت قضية ينظر إليها من طرف خفي أو على استحياء، ولم تصبح متداولة على مستوى الممارسة النقدية المنتشرة بعد، على الرغم من سيطرتها على مساحة واسعة من الإبداع الأدبي ككل والشعري منه على الخصوص ..

         ولا ننكر أن هناك ثلة من النقاد العرب(4) استطاعت بعد زمان طويل من الانتظار أن يقتحموا هذا الباب بكل صعابه ومعوقاته متخذين من قضية "جمالية المكان" موضوعا لبعض دراساتهم خصوصا الروائية.. لكنها في مجموعها لا تكفي للتدليل على أن المسألة أضحت قضية أو إشكالية نقدية في أدبنا العربي.. مع الإشارة إلى أنها دراسات تتوسل المنحى الفكري العقلي في مفهومه للمكان ومن ثمة في طرحه لجمالية المكان.. أي أنها تدرس" جمالية المكان" من جانب أحادي هو الجانب الفكري أو النفسي المحض والمباشر فقط.. وفي الأغلب الأعم تقوم هذه الدراسات على الفهم والتصور الغربيين، مع العلم أن الفكر الغربي لـه خصائصه ومرتكزاته ومقوماته ومنطلقاته وأهدافه ومحدداته، وإن روجوا لعالميته وإنسانيته، تختلف- على الأقل -  مع الفكر العربي الخالص نفسه في أسسه.. فما بالنا إذا قلنا الفكر الإسلامي، فالاختلاف في مثل هذا الموضوع أشد وأوضح، وهذا لا يمنع بطبيعة الحال أن ينهل الإسلامي الحكمة من كل فكر لا يصطدم مع الأصول والمقومات والدعائم التي يفخر بها دينه..

عود على بدء:

             إن قضية " جمالية المكان " في الشعر لازالت موضوعا يحتاج إلى وقفة تأمل وإنعام نظر ودراسات متأنية تراعي كل ما من شأنه أن يساعد على تشخيص "جمالية المكان" في الإبداع الأدبي عموما، والشعري منه على الخصوص، ويرصد الوظيفة الدلالية والمعاني المجازية والتعابير البلاغية والتراكيب الأسلوبية والتخييل الشاعري.. وكذا القضايا الرمزية والأشكال الإيحائية والمقومات الشعرية أو الشاعرية لهذه الجمالية التي يكتسيها المكان في الشعر.. وذلك بالاعتماد على تجزئ المكان الأدبي وإفراد وحداته المادية الملموسة كالبحث في جمالية المدينة أو البيت أوالشارع أوالمقهى في الشعـر أو أشياء أخرى تحمل خصائص مكانية معينة.. ولكن ليس البحث فيها على أنها فضاء مادي أو وجودي أو كوني، ولكن على أنها فضاء فني أوأدبي أي تعبير لغوي وطريقة أسلوبية تكمن خلفها وظائف دلالية يتوخى منها الإبداع التعبير عن رؤية معينة للكون والوجود والحياة والإنسان والواقع المعيش في صياغة أدبية شعرية متميزة.. وبمعنى أبسط إن جمالية المكان في الشعر لا تقوم على التشخيص المادي المحض للجمال في مكان محدد.. كأن ترصد جمالا بصريا وصفيا – أي يعتمد على حاسة البصر – ، أو تعمد إلى تحريك حاسة الاستذكار في ذهن المتلقي أي أن يطرح الشعر مكانا يجد لـه في ذهن القارئ/المتلقي نظرة معينة لها ارتباط بالأحداث والوقائع والأشخاص الذين عاشوا فيها أو لا زالوا يعيشون فيها... فهذه نظرة تاريخية تسرد الماضي وتكتفي بما يوحيه، أو تصور الحاضر وتقف عند ما يمليه، مع أن الإبداع قد لا يقصد إلى ذلك قصدا، وإن توفر فيه ذلك.. ولهذا نجد على سبيل المثال فقط كتابات عديدة تتناول بالبحث والدراسة موضوع "البحر في الأدب"(5).. ولكن لا نقرأ فيها إلا عن الرحلات التي كانت مناسبة أو سببا لقول الشعـر الحامل لموضوع البحر كمكان لغوي لكنه لايختلف دلاليا ووظيفيا عن المكان الواقعي سواء عند العرب أو عـند غيرهم من الأمم الأخرى..

         ولا يمكن بأي حال من الأحوال الاستغناء عن الجمال البصري أو الجمال الذهني/التاريخي – إن صح هذان التعبيران – في رسم جمالية المكان، ولكن لايكفي ذلك ولا يغني، لأن اللغة الشعرية المتميزة من طبيعتها أنها لا تحيل على الواقع الملموس في ماديته بشكل مباشر، أو هي بما أنها لغة شعرية لا تقصد إلى هذا النوع من الإحالة الجافة، وإنما تحيل على المكان في دلالاته وإيحاءاته ورمزيته ووظائفه وبنياته المفهومية.. إنها لا تحيل على المكان في هندسته الطولية والعرضيه والعمودية والأفقية أو في شكله المربع أو المستطيل أو المثلث أو الدائري، أو في شكله العمراني.. وإنما تحيل عليه في إطار ما يحمل من معاني تثير النفس أو تثير ما فيها من أحاسيس، وتحرك الوجدان الذي يفرز ما عنده من شعور ولا شعور، وتغني الفكر، وتمتع العقل، وتروح عن الفؤاد، وفي إطار ما يزخر به ذلك المكان من دلالات تبني أفقا شعريا ينبعث الجمال من تراسيمه.. وتحيل عليه أيضا في إطار ما يكنه من وظائف من أجلها كان هذا المكان أو ذاك مختارا في نص معين أو نصوص شعرية محددة دون غيره من الأماكن..

         وفي كلمة إن الشعر يرفض التعامل مع المكان الميت أو على الأقل في شكله المشوب بالموت، بل إنه يرفض كل سكونية فيه لأنها تذكر بالموت.. إن طبيعة الشعر تأبى السكونية في كل شيء، ولأن عناصره المكونة لبنيته تتمتع بكل مواصفات الحركة والسمات الحركية.. هكذا عهدنا الشعر، وهكذا هو في أصله..أما إذا امتلك الشاعر هذا الوعي بطبيعة المكان فإنه يفعل فيه فعلا تفجيريا وخلاقا.. وهكذا تجتمع طبيعة الشعر ووعي الشاعر ليتحدا فيكونا من اللاشيء شيئا يرتع في عالم الجمال، ويزهو في فضاء السحر، ويسبح في بحر البهاء..

         إن " جمالية المكان " –كما أشرنا من قبل - لا تتحدد من خلال ما يثيره فينا المكان عن ماضيه أو حاضره أو حتى مستقبله فحسب، أو ما يحركه في دواخلنا من أخبار وأحداث ووقائع تنسب إليه أو تحال عليه فقط.. أو ما يبعثه فينا من تشوق إلى رؤيته أو إلى استحضاره في الذهن واستذكاره ليس غير.. إن للمكان الحق في أن يثير ويحرك ويهز فينا كل هذه الأشياء والقضايا والأمور، لأن لـه في ذاكرتنا تاريخا قد يغور في الزمان.. وتصورا قد يحمل الكثير من الدلالات.. ومشاهد قد تمتع البصر وتنعش البصيرة وتأخذ اللب وتأسر العقل وتقيد الفؤاد.. ومع هذا كله نرى أن "جمالية المكان " لا تتحدد في شكلها الكامل من خلال ذاتية المكان نفسه بقدر ما تتوضح من خلال وسائل التعبير وطرائق الحديث عنه، أي من خلال ما أسموه  " باللعبة اللغوية " والتي تتوضح من خلال الإشارات الأسلوبية والعمليات التعبيرية، ومن خلال الألفاظ والمفردات المنتقاة، ومن خلال التراكيب والبناء اللغوي المختار، ومن خلال الصور البلاغية وما تزخر به من خلفيات إيحائية، ومن خلال المفاهيم والدلالات والرؤى والرموز.. ومن خلال ما تحققه العلائق اللغوية عندما تكوّن بارتباطها وانسجام عناصرها والتحام ألفاظها وتراكيبها صورة أو صورا ومشاهد تعبر عن رؤية معينة لهذا المكان.. وفي الآن نفسه تعبر عن رؤية محددة للكون والحياة والإنسان والوجود، كما تفصح عن المستوى الطبيعي الحقيقي ممزوجا بالمستوى الذاتي النفسي والاجتماعي والعالمي والثقافي والفكري والواقعي والخيالي..

         إن المكان في الإبداع الأدبي عامة وفي الإبداع الشعري على الخصوص ليس صورة (فوتوغرافية) أو شكلا مرسوما هندسيا (طوبوغرافيا) كما أنه ليس موصوفا وصفا علميا أو مشهديا أو تشريحيا، وإنما هو تعبير أو تلفظ لغوي أو دال يحمل في ذاته مدلولا ثم يحيل على مرجع معين، ثم يصير من حيث الرؤية إلى مرجع مفتوح يعطي للدال فرصة كبيرة يتناسل من خلالها(6).. كما قد يرتبط بدوال أخرى ضمن تركيب لغوي معين، وفي إطار سياق أسلوبي محدد، بل وضمن نص أو نصوص إبداعية متعددة تتفق في استعمالها اللغوي للمكان نفسه.. وهذا يسعف الدال على توسيع دائرة مدلولاته ومرجعه المفتوح.. لذا أصبح لزاما أن تخرج اللفظة المكانية المستعملة في الملفوظ/المتخيل (أي أن يخرج الدال) من المستوى الملموس إلى المستوى المجرد، ومن الإطار المحسوس إلى الإطار المعنوي، ومن المرئي إلى المفهومي أو الرؤيوي، ومن مجرد التذكر إلى التفكر والارتقاء في التخيل..

         إن أماكن الإبداع الشعري لغوية بالضرورة وإن أحالت على ما هو مادي في الأصل.. تتحرك في إطار ما تعطيه اللغة وما تزخر به تراكيبها وما تمنحه من معاني ومفاهيم وما تتمتع به من رؤى وما تحويه من رموز وما تكنه من تشكيل خصوصا إذا فجرها الإبداع الشعري تفجيرا شاعريا يُفيض على مفهوم المكان جمالا وسناء وسلاسة قد لا تبدو للعيان أو حتى للمتفحص الذي يعتمد على اللغة في منطوقها العادي أو في مفهومها الضيق والقاصر، أو في لعبتها غير الناضجة.. أو يعتمد بعض الأدوات النقدية العتيقة/المتجاوزة، أوالتي لم ترق بعد إلى ما آلت إليه الدراسات الحديثة، أو لم تتمتع بنظرة تكاملية توليدية وتفجيرية تعتصر اللغة الإبداعية اعتصارا في أساليبها وتراكيبها وعلائق كل مكوناتها كي تنتهي في ذلك وبذلك إلى الحصول على لب وأسِّ تلك اللغة وجوهرها الذي يحرك الأنفس ويدغدغ الوجدان ويرقى بالفكر ويسحر العقل ويعلو بالروح ويسمو بالفؤاد، ويبرز المادة المدروسة في جوهرها الشفاف، وهي ترقى في معارج الأدبية والشعرية..

         ويمكن أن نقسم المكان في الشعر كما في غيره من حيث المبدأ إلى قسمين اثنين: أحدهما يأتي محددا والآخر يكون غير محدد.. وبلغة النحاة القدامى ينقسم المكان إلى جنس وعلم، بمعنى أنه ينقسم إلى اسم جنس وهو الذي لا يختص بواحد دون آخر من أفراد جنسه كدار ومدينة وبحر.... واسم علم وهو الذي يدل على معين بحسب وضعه كدمشق وبغداد والنيل.....(7).

         أما المكان الجنس فهو أوسع دلالة وأشسع وظيفة وأغنى إيحاء وأوفى رمزا من المكان العلم، لأن هذا الأخير محدود الدلالة ويربطنا - نحن معشر المتلقين/القراء – بإطار معين وشكل محدد يفترض أننا نعرفه، كما أنه يفرض علينا التقيد به وبما يوحي به من أمور ترتبط به دون غيره، نفسيا وفكريا واجتماعيا وثقافيا ووجدانيا... ومع ذلك فإنه بوسع الناقد أن يستغل كل طاقاته النقدية والتحليلية والإبداعية ليزرع الروح الجمالية الواسعة في هذا المكان العلم كي يجعل منه مكانا قريب المفهوم والدلالة من المكان الجنس الذي من طبيعته أنه يفسح المجال للخيال الواسع والتأويلات المختلفة، والقراءات المتعددة، وحتى الإسقاطات المفترضة، كي يسبح في فضائه العريض ويمرح في دلالاته المتنوعة والكثيرة ويتمتع بوظائفه العديدة..

         وأخيرا يبقى المكان " بنوعيه الجنس والعلم" حاملا  لدلالات السياق الذي ورد فيه من الإبداع الشعري، ووظائف الانساق اللغوية التي حل في وسطها، ثم طريقة المبدع في استغلاله اللغوي لذلك المكان أو ذاك.. ولا يمكن للناقد أن يخرج عن السياق أو النسق اللغوي أكثر مما يلزم حتى تبقى للمكان جماليته (النصية) - إن صح القيل- وكي لا يتيه المتلقي بين الإبداع في حد ذاته وإبداع قراءة ذلك الإبداع.. وكي لا يضيع القارئ بين اللغة/الخطاب و(الميتالغة/الميتاخطاب)، بل يجب أن يوجد تناغم وتوافق وتكامل  وانسجام بين الإبداع ونقده، بحيث إذا كان الإبداع يحاول ملأ بياض فضاء ما بسواد الكتابة، فإن القراءة يمكن اعتبارها محاولة أخرى من المتلقي لملإ ما استطاع من جُزَيْآتِ ما تبقى من بياض ذلك الفضاء أي ما لم يملأه الإبداع.. وفي إطار التدافع بين سواد الإبداع وسواد قراءة الإبداع تكون – بعدهما- عملية التلقي قد احتفظت من كل منهما على ما أثبت قدرته الجمالية على البقاء والاستمرار ( فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض )(الرعد:19 ) 

         ثم إن الجمالية نفسها في قراءتنا تعتبر تقنية لغوية بل لعبة لغوية محض – كما يحلو لبعضهم أن يقول - فهي (أي الجمالية) ليست الجمال الذي نعرفه ونفهمه عادة بأنه الشيء الذي يثير في النفس معاني الخير والفضيلة والسمو أو يضرب فيها على أوتار الفرح والسرور والبهجة والغبطة، أو يحرك فيها كوامنها الاعجابية والاندهاشية، أو يدفعها إلى الاستغراب واستحضار مدى المهارة والبراعة والدقة في الصناعة الأدبية والإبداع الشعري.. وإنما الجمالية، مع ما تتوفر عليه من هذه المكونات نفسها وغيرها، تستعمل كتقنية لغوية قد يستشفها الناقد ثم يبرزها من داخل الإبداع، وقد يتمثلها المتلقي، دون أن يراعيها المبدع أو يفطن إليها أو قد يكون استضمرها..

         فالجمالية إذن تستعمل - كما قلنا- كتقنية لغوية تصور مكانا ما أو أي شيء آخر بأسلوبها المتميز وتعبيرها الدال وتجريدها الموحي كي تنقل المتلقي من عالم المحسوس/الملموس إلى عالم المفهوم/المجرد سواء أأثارت بذلك في قرارة نفسه دواعي الفرحة والغبطة والسرور، أو أثارت فيها مكامن الحزن والهم والغم، وسواء أوجهته إلى مواطن الخير والفضيلة أو حولته إلى مكامن الشر والرذيلة، أو حركت في دواخله مثيرات أخرى مختلفة.. وسواء أصورت- هذه التقنية/اللعبة اللغوية- مكانا ساميا ومقدسا، أو مكانا دانيا ومدنسا.. فالمهم هو أن يستطيع المبدع تصوير ما يريده، بوعي أو بلا وعي، بأسلوبه الخاص الذي يفوح سلاسة، ويمتلئ ماء شعريا، ويتضوع إيحاء وتصويرا، ويمتاز إيقاعا وبلاغة، مما يمكن المتلقي من الافتتان بجمالية هذا المكان أو ذاك الشيء أسلوبيا ودلاليا ولغويا، وليس ماديا/ بصريا/ حسيا ولا حتى فكريا.. لأنه كثيرا ما يكون الشيء قبيحا في ذاته وليس جميلا في أصله، ولكن الإبداع المتميز ينسينا قبحه، ويستر عنا سوأته، ويحجب كل ما ينفرنا منه عندما يتمكن المبدع من أن يصوره بطريقة أدبية جميلة تُـسْـقـَـطُ عليه إسقاطا جميلا وليس إسفافا، فيتحلى بها ويتزين، وقد يحصل التماهي بين الشيء وجمالية التعبير عنه فيصبح هو هو.. ويمكن أن نستشف مثل هذا المعنى من خلال قراءتنا لهذا الحدث التاريخي الرائع من السيرة النبوية العطرة، والذي يوضح ما نقصده من قولنا هذا، ويبين ما نود عرضه وطرحه لفهم هذا الأمر، وهو عبارة عن حديث نبوي شريف مصحوب بسبب وروده، يقول النص:

          **...فخر الزبرقان. فقال: يا رسول الله أنا سيد بني تميم والمطاع فيهم والمجاب، أمنعهم من الظلم وأخذ منهم بحقوقهم، وهذا يعلم ذلك – يعني عمرو بن الأهيم – فقال عمرو إنه لشديد المعارضة، مانع الجانب، مطاع في اذنه.. فقال الزبرقان والله يا رسول الله لقد علم من غير ما قال، وما منعه أن يتكلم إلا الحسد، فقال عمرو: أنا أحسدك ؟
فقال عمرو: والله يا رسول الله إنه لئيم الخال، حديث المال، أحمق الوالد مضيع في العشيرة، والله يا رسول الله لقد صدقت في الأولى، وما كذبت في الآخرة، ولكني رجل إذا رضيت قلت أحسن ما علمت، وإذا غضبت قلت أقبح ما وجدت.. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ** إن من البيان سحرا**.. (8).
       هذا النص يمكن أن نستخلص منه مجموعة من القضايا النقدية التي أثارت الجدل منذ القديم وأسالت – وما زالت -  مدادا كثيرا، كقضية الصدق والكذب، " لقد صدقت في الأولى وما كذبت في الآخرة "، وكقضية العلاقة الموجودة أو المحتملة بين الجو الوجداني  أو الحالة النفسية التي يكون عليها المبدع والإبداع الأدبي بشكل عام والشعري بشكل خاص، ومدى تأثر الإبداع بالمبدع " إذا رضيت قلت أحسن ما علمت وإذا غضبت قلت أقبح ما وجدت.." وكقضية الإبداع وتأثيره على المتلقي.. انطلاقا من " إن من البيان لسحرا"، وعلاقة البيان بالسحر ومفهوم كل منهما، وكيف ربط الحديث بين السحر والبيان ولم يربط بين السحر والموضوع، لأن السحر غالبا ما يرتبط بالموضوع يقول الدكتور حميد لحمداني (9):* يتجلى الموضوع في الإبداع الأدبي من خلال سحره الخاص..*.. ولكن الأهم عندنا اللحظة هو ذلك الانطباع الجمالي والبصمات السحرية التي تركها المتكلم – عمرو بن الأهيم -  بأسلوبين من الكلام/الخطاب متناقضين تماما، أحدهما جاء للمدح والوقوف على الفضائل وذكر المحاسن ، والآخر يصور الذم والهجاء ويكشف المثالب والقبائح..
         وبناء على الأسلوب الذي اتخذه المرسل في تبليغ رسالته، والطريقة التي أوضحها بها، والتعبير الذي استعمله لإنجازها، كان تأثر المتلقي/القارئ/السامع وانفعاله وتقديره واضحا عند قوله: " إن من البيان لسحرا ".. إن البيان: اللغة والأسلوب وطريقة التعبير وحسن استعمال الكلمات واختيار الألفاظ وحسن تجاورها وإعطاء الصورة الواضحة عن الشيء، كل ذلك كان وراء تلك النظرة النبوية النقدية، وليس المدح أو الهجاء أو حتى موضوع اللقاء- ونحن نعلم موقف الإسلام من الهجاء والذم، ولكن هنا اختلف الوضع لقرائن عديدة ليس هذا مكان ذكرها- ومن هنا قلنا كيفما كان حال المكان- مقدسا أو مدنسا- فما على الناقد إلا أن يبرز الجمالية أو السحرية التي استطاع المبدع أن يصور بها ذلك المكان وأن يعبر بها عنه.. وإلى أي حد أسعفته ملكاته الإبداعية على تصوير/تخييل قداسة المكان أو دناسته.. وكيف تمكنت قدراته الفنية واللغوية والجمالية من تشخيص صورة المكان في ذهن المتلقي/القارئ وجعله يشخص إلى تلك الصورة المقدمة بأحد الشكلين: إما التعاطف والحب وإما النفور والكره.. ولا يتم أحدهما إلا في إطار العلاقة اللغوية التي ستتم بين المبدع والمتلقي.. فعن ابن عمر رضي الله عنه أنه قدم رجلان من المشرق فخطبا فعجب الناس لبيانهما فقال رسول الله  صلى الله عليه وسلم **إن من البيان لسحرا أو إن بعض البيان لسحر**(10) وهكذا تكون"اللغة الإبداعية هي وحدها بمغامرتها الخاصة تستطيع أن تأسر بعض اللحظات الخاطفة من هذا التلامس الوجودي بين الذات والعالم، فـبـواسطة الـتـمـثـيل La représentation)  (وبواسطة الصور الشعرية يستطيع المبدع أن يبلغ لذة اكتشاف سحر الموضوعات"(11)

وللموضوع بقية إن شاء الله تعالى....

مع: 

"البحر والغربة"


تحميل ملف "PDF"


0 تعاليق:

إرسال تعليق