class='ads'>
الخميس، يوليو 9

"حكم التجسس في الإسلام" انطلاقا من قصة حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه

حكم التجسس في الإسلام



يقول الله عز وجل: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ" (الحجرات 12)

إن الآية تنهى نهيا صريحا وقاطعا عن التجسس، وأي نوع من أنواع التجسس؟ إنه في أدنى حالاته، وهو تجسس المسلمين بعضهم على بعض وذلك بالتنصت واستراق السمع لمعرفة الأخبار، أو بإلقاء النظر وإتباع البصر للاطلاع على ما وراء الأستار، وهذا النهي يعتبر نهي تحريم لما يجره من مفاسد نفسية واجتماعية.. والتجسس خلق مذموم قد يجر صاحبه إلى أخلاق أخرى محرمة شرعا فيها وعيد كبير كأن يصبح قتاتاً "والقتات: الذي يتسمع على القوم وهم لا يعلمون ثم ينم"(النهاية في غريب الأثر لابن الأثير 4/ 18) ولقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه: "لا يدخل الجنة قتات" (رواه البخاري ومسلم وغيرهما) ولذلك شدد النبي صلى الله عليه وسلم الوعيد على المتجسس في مثل ما جاء عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا، ولا تجسسوا، ولا تناجشوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا" (متفق عليه) وعن أبي برزة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه: لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من اتبع عورة أخيه المسلم يتبع الله عورته، ومن اتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف بيته" (أحمد وأبو داود والبيهقي وأبو يعلى) هذا وعيد تكفل الله تعالى به وبإنجازه في حق من تعاطى هذا الخلق الذميم، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم جوّز فقأ العين لمن اطلع تجسسا على بيت غيره ولو من فتحة أو كوة أو نافذة روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من اطلع في بيت قوم بغير إذنهم فقد حل لهم أن يفقؤوا عينه" وجاء عن أنس رضي الله عنه: "أن رجلا اطلع من بعض حجر النبي صلى الله عليه وسلم فقام إليه النبي بمشقص أو بمشاقص فكأني أنظر إليه يختل الرجل ليطعنه" (رواه البخاري ومسلم)

إن الآية الكريمة والأحاديث الشريفة تتحدث عن التجسس في معناه العام، أي عن التجسس الذي قد لا يتعدى ضرره صاحبه، بمعنى أن المتجسَّس عليه لا يطاله ضرر ولا يمسه أذى من عملية التجسس لأن المتجسس يتجسس لصالح ذاته إرضاء لنفسه فحسب، فما بالنا بمن كان تجسسه لصالح الغير وقد يكون عدوا ومحاربا، وذلك من أجل لقيمات أو دويلرات ولقاء رضا سادته من الطواغيت... فيكون بتجسسه ذاك سببا في أذى يصيب المرء المتجسَّس عليه وقد يصل هذا الأذى بالمسلم إلى السجن أو القتل أو التعذيب جراء تلك معلومة التي أوصلها الجاسوس للطاغوت أو العدو أو المحارب... ولكن ماذا سيأكل؟ وماذا سيطعم؟ وماذا سيكسو؟ وما المركز الذي سيحتله؟ وماذا سيستفيد هذا الذي يأخذ أجرا على تجسسه؟ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من أكل برجل مسلم أُكلة فإن الله يطعمه مثلها من جهنم، ومن اكتسى برجل مسلم ثوبا فإن الله يكسوه مثله من جهنم، ومن قام برجل مسلم مقام سمعة ورياء فإن الله يقوم به مقام سمعة ورياء يوم القيامة" (رواه أبو داود وأحمد والحاكم وغيرهم) يقول صاجب (عون المعبود على شرح سنن أبي داود 13/ 154): "(من أكل برجل مسلم)أي بسبب اغتيابه والوقيعة فيه، أو بتعرضه له بالأذية عند من يعاديه،[....] معناه الرجل يكون صديقا ثم يذهب إلى عدوه فيتكلم فيه بغير الجميل ليجيزه عليه بجائزة فلا يبارك الله له فيها"

هذا من جزاء الله لعيون الطغاة وجواسيسهم الذين يلهثون خلف المادة والمتعة الدنيوية والشهوة الفانية ويضحون بأنفس تعذب وأرواح تقتل... لا أدري كيف تسول لهم أنفسهم فعل مثل هذا الجرم ثم يتبجحون بإسلامهم ويتشدقون بتدينهم ويترنحون بمناصرتهم للخلافة... فليتق الله الذين يخلطون الأمور ولا يريدون أن يتجشموا عناء البحث عن الحق والحقيقة ولا يريدون أن يكلفوا أنفسهم مشقة الاستماع والإنصات قبل الحكم على الآخرين ليبني على حكمه جواز التجسس على الموحدين، إن ما يبنى على الخطأ فهو خطأ، والذين يفكرون انطلاقا مما لا يعون أو لا يفهمون، وهم عن طلب العلم والمعرفة يتخاذلون، وبالنار هم يلعبون ويظنون أنهم يحسنون صنعا... يقول تعالى: " وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَك بِهِ عِلْمٌ إنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَر وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا" (الإسراء:36) روى البخاري وغيره عن ابن عباس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون أو يفرون منه، صُبَّ في أذنه الآنك(وهو الرصاص)يوم القيامة"

ثم ننتقل إلى ما هو أدهى وأنكى وأمر، وهو أن التجسس على الموحدين لصالح الكفار يعتبر موالاة وتوليا لهم، قال الله تعالى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاء مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ" (الممتحنة/ 1) يقول العلامة الطاهر بن عاشور رحمه الله في (التحرير والتنوير: 15/ 24) "اتفق المفسرون وثبت في صحيح الأحاديث أن هذه الآية نزلت في قضية الكتاب الذي كتب به حاطب بن أبي بلتعة حليف بني أسد بن عند العزّى من قريش، وكان حاطب من المهاجرين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أهل بدر" ويقول ابن جرير الطبري رحمه الله: "وذُكر أن هذه الآيات من أول هذه السورة نزلت في شأن حاطب بن أبي بلتعة، وكان كتب إلى قريش يطلعهم على أمر كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخفاه عنهم، وبذلك جاءت الآثار والرواية عن جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيرهم"(تفسير الطبري 23/ 311) لقد اتفق القدامى والمحدثون على أن الآيات نزلت في حاطب رضي الله عنه ودخل فعله هذا في معنى التجسس لذلك نجد عددا من المحدثين يجعلون الآيات في باب الجاسوس كما قال الإمام البخاري رحمه الله: (باب الجاسوس وقول الله تعالى: "لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء" التجسس التبحث)،ثم ذكر قصة حاطب رضي الله عنه.. وقال الإمام أبو داود رحمه الله: (باب في حكم الجاسوس إذا كان مسلما) وذكر حادثة حاطب رضي الله عنه.. وقال الإمام البيهقي رحمه الله: (باب المسلم يدل المشركين على عورة المسلمين) وساق في الباب قصة حاطب أيضا.. فما هي قصة حاطب بن بلتعة رضي الله عنه يا ترى؟ فعلى الرغم من الاختلافات الكثيرة في بعض ألفاظ الحديث إلا أنها من حيث المعنى جملة يكاد يكون واحداً، ثم أنه لا شك في صحتها، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وهذه القصة مما اتفق أهل العلم على صحتها، وهي متواترة عندهم، معروفة عند علماء التفسير، وعلماء الحديث، وعلماء المغازي والسير والتواريخ، وعلماء الفقه، وغير هؤلاء" (منهاج السنة:4/ 331) والقصة كما رواها الإمام أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم جاءت كالتالي: عن عبيد الله بن أبي رافع قال سمعت عليا رضي الله عنه يقول: "بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد، فقال: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب، فخرجنا تعادى بنا خيلنا فإذا نحن بظعينة فقلنا: أخرجي الكتاب، فقالت، ما معي كتاب، فقلنا لها: لتخرجن الكتاب أو لنلقين الثياب، فأخرجته من عقاصها، فأتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا فيه: من حاطب بن أبي بلتعة إلى أناس من المشركين ممن بمكة يخبر ببعض أمر النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ما هذا يا حاطب؟ قال: لا تعجل علي، إني كنت امرأ ملصقا في قريش، ولم أكن من أنفسها، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون بها قراباتهم، ولم يكن لي بمكة قرابة، فأحببت إذ فاتني ذلك أن أتخذ عندهم يدا، والله ما فعلته شكا في ديني، ولا رضا بالكفر بعد الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه قد صدق، فقال عمر رضي الله عنه: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنه شهد بدرا، وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ونزلت (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ)"

في الحقيقة هذه القصة لا تصور عمق العمل الجاسوسي، ولا تعطي حتى عشر مثقاله، فالجاسوسية عمل -بعد تعلم وتدريب واختبار- منظم يقوم بنقل المعلومة بشكل دقيق ويتحرى الضبط والتفصيل ما أمكن، وكلما كانت متقنة كلما استفاد الجاسوس والعميل مما قام به لأن مشغله يحفزه على ذلك.. وهي مع مرور الزمان تصبح جزءا من عقيدة محترفيها، إلى درجة أنه يصبح لا يفرق بين بعيد ولا قريب، من أجل مصلحته الشخصية يأتي على الأخضر واليابس..

ورسالة حاطب رضي الله عنه ليست كالتقارير التي ترسل ولصور التي تبعث والتفاصيل التي تحكى.. رسالة حاطب لم تتحدث عن شيء من تفاصيل ما يريده الرسول صلى الله عليه وسلم ولم تصور ما عزم على القيام به اتجاه الكفار، ولم تخبر بالخطوات المزمع تنفيذها للهجوم، ولم تفصح عن أسرار قد تفيد الكفار في حربهم ضد الرسول صلى الله عليه وسلم، بل هي رسالة تحمل في طياتها التخويف مما يقدر على فعله المسلمون في الكافرين، رسالة تزرع الرعب في العدو قبل اللقاء، وتلقي الفزع في قلبه قبل الالتحام، وتفقده الثقة في نفسه قبل الاستعداد ليوم النزال، وتربك أجناده وترعد فرائصه، رسالة تحمل بين أسطرها عقيدة صاحبها في الله تعالى وثقته في نصره، وفي رسوله صلى الله عليه وسلم وحبه وتفانيه في طاعته، إنه من أهل بدر وما أدراك ما أهل بدر ناصروا دين الله ورسوله وهم أذلة، إنه كان من أولئك الذين قالوا: "يا رسول الله، امض لما أمرك الله به، فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى:(فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون) ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فوالذي بعثك بالحق، لو سرت بنا إلى "برك الغماد" - يعني مدينة الحبشة - لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه" لقد اطلع المولى دل وعلا على قلوب أهل بدر فوجدها سليمة لذلك متعهم برحمته وعفوه، وسلامة قلب حاطب رضي الله عنه بارزة في الرسالة نفسها، ذكر يحيى بن سلام في تفسيره أن لفظ الكتاب "أما بعد، يا معشر قريش فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءكم بجيش كالليل يسير كالسيل، فوالله لو جاءكم وحده لنصره الله وأنجز له وعده، فانظروا لأنفسكم والسلام " كذا حكاه السهيلي . وروى الواقدي بسند له مرسل أن حاطبا كتب إلى سهيل بن عمرو وصفوان بن أمية وعكرمة "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن في الناس بالغزو، ولا أراه يريد غيركم، وقد أحببت أن تكون لي عندكم يد" (نيل الأوطار للشوكاني: ج8/ص13) لا داعي للإطالة بتحليل الكتابة ودراستها، لنبين الفارق الكبير والبون الشاسع بين ما قام به حاطب رضي الله عنه وما يقوم به جواسيس العصر عليهم من الله ما يستحقون، بل يمكنني القول بأنه يكفي حاطبا فخرا أنه كان سببا في نزول حكما من الله تعالى يبين لنا صفة هؤلاء الذين بين أظهرنا من جواسيس وعيون ومتربصين، ويوضح لنا الحكم الذي يستحقونه، إن الذين يتجندون في إطار التجسس على المسلمين يعتبرون بنص القرآن موالين لأعداء الله وهم الكفار بشكل عام، فإذا كان الشرع اعتبر فعل حاطب موالاة فقط لكونه كتب رسالة هي أقرب للتخويف وتثبيط الهمم والترهيب من قوة المسلمين منها إلى تقرير مفصل أو مجمل أو نقل أخبار سرية كاشفة لعورات المسلمين.. فكيف الأمر بالنسبة لمن جند نفسه لصالح فئة قائمة على حرب الله ورسوله والمؤمنين، فكيف بمن ينتسب إلى مؤسسة أو طائفة أو دائرة كل همها الغوص بين المؤمنين من جميع الجهات (منها جهة شبكات التواصل الاجتماعية) بل والمخاطرة بالنفس من أجل اصطياد معلومة أو البحث عن مكمن ضعف أو التنقيب عن عورة كتابة أو صوتا أو صورة ليقدمها لأعداء الله تعالى وأعداء رسوله صلى الله عليه وسلم وأعداء المؤمنين المخلصين مقابل حضوة معينة كيفما كان شكلها.. بالإضافة إلى هذا كله تجده صاحب القلب الفارغ إلا من حب الدنيا الزائلة وحب الشهوة الفانية وحب المال الوبال.. "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ" إن الآية القرآنية واضحة بينة ينهى الله تعالى فيها عن اتخاذ الأعداء أنصارا بالتجسس لصالحهم وبدلالتهم على ما ينفعهم من أخبار في حربهم ضد المسلمين، أو يوقع الأذية والضرر بهم، ومن فعل ذلك فقد اتخذهم أولياء ومن اتخذهم أولياء فقد ضل سواء السبيل.. ومن ثمة فإن كل آية قرآنية تتحدث عن موضوع الموالاة للكفار تحق فيهم، وكل من والى مواليا للكفار ودافع عنه ونافح أو ناصره وكثّر سواده فهو مثله في الحكم..

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم إنه هو العليم الحكيم


التالي
هذا احدت موضوع.
رسالة أقدم

0 تعاليق:

إرسال تعليق