class='ads'>
الخميس، مايو 21

الجزء الثالث من الدراسة: "قضية الإبداع الأدبي في الإسلام"

من آيات سورة "الشعراء" إلى آيات سورة "يـس"

الأستاذ عبد الرزاق المساوي

إلى آيات"يس":

وبعد هذه المأدبة العظيمة من سورة "الشعراء" ننتقل إلى مأدبة سورة "يس" التي جاءت في سياق ما اصطلح على تسميته بالقرآن المكي، وبذلك فهي آيات تتميز بكل الخصائص والمقومات التي تشكل طبيعة موضوع وبناء السور المكية بشكل عام، إذ الطابع الغالب على ذلك العهد وذلك الموضوع هو الاهتمام المتزايد بما يعتبر أس الإسلام ولبه، وجوهر الدين وركيزته وذلك بإعطاء الأولوية لقضية العقيدة ومبادئها ومستوياتها ومكوناتها وشعبها.. وإصلاح القلوب والنفوس و(الوجدانات) وتنقيتها وصقلها وتطوير العقول والألباب وتزكيتها في فهمها لموضوع الإيمان وتعاملها مع كل مكوناتها وجميع تجلياتها.. 

إن اللحظة المكية كانت هي اللحظة الحاسمة في تشكيل الصورة التي سيكون أو سيؤول إليها الإسلام في نهاية المطاف، كيف سيكون فهمه في أذهان العرب، وكيف سيتحدد مصيره من حيث البقاء والاستمرارية عندما تنزل الآية الكريمة )اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا((الأنبياء 4).. لذلك نجد هذا الدين الجديد يخوض معارك الوجود والبقاء، وقد كانت معارك ضارية على مستوى النفس والفكر والعقل والمجتمع والواقع.. حتى يتمكن من إرساء مبادئ التوحيد وترسيخ الدعامة الأولى في الإسلام والتي هي "أشهد ألا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله" والتي من خلالها وانطلاقا منها سيتم التعاطي مع جوانب الحياة كلها.. ولقد أدرك العربي بسليقته وفطرته وفهمه للمعاني والمدركات ومعرفته بالأبعاد والمرامي والمقاصد أن هذه الدعامة التي ركزت عليها الدعوة الإسلامية منذ البداية ليست كلمة تسمعها الآذان وتقال باللسان ولا تتجاوز إلى أغوار الوجدان.. بل هي في إدراكه وفي عمق اعتقاده وفي نظرته البعيدة تغيير جذري لما رسخ في المجتمع العربي من شرك ومظاهره وكفر ومشاربه.. إنها انقلاب كبير لما طبع السلوك العربي من انحراف ورذيلة وسوء.. كما إنها تعتبر في تقديره تصد قوي لكل ملامح وصور الجاهلية في العلاقات البشرية والمالية والتدبيرية.. وبإدراك العربي لخطورة هذه الدعوة الجديدة وهذه النبتة الطرية على الشكل الذي رأينا حاول بجميع ما يملك من الوسائل وبكل ما أوتي من الأسباب وأدها وقتلها والفتك بها وهي ما تزال في مهدها.. قبل أن يشيع أمرها بين الأفراد والأسر والجماعات، وقبل أن يذيع صيتها في الحواضر والبوادي.. ولكنه لم يفلح في ذلك، ولم ينجح في صد أو الحد من المد المحرر للعقيدة والتصور والسلوك والرؤية والأفق من كل أشكال المثبطات والمعوقات الشركية عقيدة والكفرية فكرا والجاهلية سلوكا..

ولقد كان من أول الأسلحة التي استعملت في وجه هذا الدين الجديد في زمنه المكي – قبل أي نوع المواجهة كالتعذيب والقتل وكتم الأصوات والتهجير..- هو سلاح التشويه إعلاميا كما فعل أبو لهب(1)، وتسمية الأشياء بغير مسمياتها، ووضع النقاط على غير حروفها وفي غير محلها، والترويج لمصطلحات لا تعبر بشكل نقي عن حقيقة هذا الدين، ولا تدل دلالة عميقة على المعاني التي جاء يبشر بها، ولا تحمل المفاهيم الصائبة التي أراد نشرها، ولا تصور كما يجب الرؤية العقدية التوحيدية التي نزل الوحي من أجلها.. ولكي تتحقق هذه الأهداف جميعها ضربة قاضية في عمق ما جاءهم به محمد صلى الله عليه وسلم.. توجه هذا التشويه الإعلامي على الخصوص إلى المركز والمنطلق والذي هو القرآن الكريم كلام الله جل في علاه، ثم إلى المبلغ عن الله محمد بن عبد الله رسول الله صلى الله عليه وسلم..

ولذلك فإن أول مواجهة تمت بين الرؤية الجاهلية العتيقة والتصور الإسلامي الجديد كانت عبارة عن مواجهة لغوية/اسمية أو اصطلاحية لأن المصطلح "في دلالته الحضارية أن تكون أو لا تكون"(2) لما يحمل هذا المكون من إشارات ودلالات، ولما يزخر به من إيماءات وإيحاءات، فالشيء يحمل دلالاته في اسمه، ويعبر عن تصوره من خلال المصطلح الدال عليه، لأنه " على الرغم من أنه لا مشاحة –كما يقولون- في المصطلح، فإنه لا مناص من الاعتراف بأن بعض المصطلحات قد مارس ضربا من التأثير السلبي فيما وضع له من مفهومات، بتضليل مقصود حينا، وبتناقض معطياتها حينا آخر، ثم باختلاف مستويات النظر إليه طبقا لاختلاف الثقافات والبيئات، وتبعا لتطور إيقاعات الزمان والمكان بصفة عامة"(3) وانطلاقا من وعي العربي بخطورة الكلمة (اللفظة / التسمية / المصطلح ) وما توحي به من مفاهيم، وما تفوح به من معان، وما تشخص من دلالات وما تفك من رموز.. بدأ حربه ضد الإسلام في أبرز مقوماته بله في أسه وهو مفهوم "القرآن" ومفهوم "الرسول".. وذلك بمحاولته تغيير اللفظتين/المصطلحين السابقين والترويج بدلهما للفظتين/مصطلحين آخرين هما "الشعر" و"الشاعر" على قاعدة "استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير" ليشيع بين الناس أن هذا الذي يسمى "القرآن" والذي بهرهم منذ أول قراءة لآياته، ليس من عند الله، بله ما هو إلا الشعر من إنتاج الشاعر، وأن هذا الرجل الذي يدعي أنه يتلقى الوحي من السماء ما هو إلا شاعر من الشعراء العرب، مثله كمثل الذين ادعوا النبوة من قبل.. وهذا ليس لأن العرب تريد أن يسمى القرآن شعرا دون غاية أو هدف، ولكن لأن اختيار مصطلح معين بذاته هو تعبير عن الذات واختياراتها من معتقداتها وسلوكياتها التي سوف تتجلى من خلال ما ارتضته لنفسها اسما ومصطلحا.. وهذا ليس غريبا يقول الدكتور محسن عبد الحميد: "لا غرابة أن ينادي بعضهم بوجوب أن يكون للإسلام والإسلاميين مصطلحات خاصة بمدلولات خاصة في بعض المجالات المعرفية، إن لم تكن في كلها، حتى يتسنى للصحوة المعاصرة أن تعبر عن نفسها بنفسها ومن خلال ذاتيتها واختياراتها." (4)

كانت في البدء المعركة إعلامية شرسة وعلى أشدها ضد المصطلحين "القرآن والرسول".. وإن كانت غير مضمونة النتائج بالنسبة للذين أسعروها نظرا للبون الشاسع بين المستبدل والمستبدل به، ونظرا للفروق الكبيرة جدا بين القرآن والشعر.. وهذا الأمر فطن له بعضهم، فالعرب تدرك جيدا ماهية الشعر وطبيعته ووظيفته وشكله، لذلك كان رد أنيس على أخيه أبي ذر الغفاري لما أرسله ليستطلع أمر النبي صلى الله عليه وسلم قوله: " رأيته يأمر بمكارم الأخلاق، وكلاما ما هو بالشعر"(5) ولم يستطع آخرون كتمان هذا الأمر كما جاء على لسان أحد شيوخ قريش الذين ساهموا بالترويج لكل شائعة ضد الرسالة الجديدة، وهو الوليد بن المغيرة الذي * اجتمع إليه نفر من قريش وكان ذا سن فيهم، وقد حضر الموسم. فقال لهم يا معشر قريش قد حضر هذا الموسم، وإن وفود العرب ستقدم عليكم فيه، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا (يعني الرسول صلى الله عليه وسلم) فأجمعوا فيه رأيا واحدا، ولا تختلفوا، فيكذب بعضكم بعضا، ويرد قولكم بعضكم بعضا. قالوا: فأنت يا أبا عبد شمس فقل، وأقم لنا رأيا نقل به، قال: بل أنتم فقولوا أسمع. قالوا: نقول: هاكن. قال: لا والله ما هو بكاهن، لقد رأينا الكهان، فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه، قالوا: فنقول: مجنون. قال: ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون وعرفناه، فما هو بخنقه، ولا تخالجه، ولا وسوسته. قالوا: فنقول: شاعر، قال: ما هو بشاعر، لقد عرفنا الشعر كله، رجزه وهزجه، وقريضه ومقبوضه ومبسوطه، فما هو بالشعر.....(6)

ومع هذا كله كان لزاما عليهم للحفاظ على مواقعهم ومصالحهم المعيشية أن يجادلوا ويروجوا لما يشوه صورة ودلالات ومعاني وآفاق ما يحمله هذا الكتاب الجديد "القرآن" وما يبشر به هذا الرجل الذي بعث فيهم ومن أنفسهم محمد الرسول صلى الله عليه وسلم.. إلا أن الله سبحانه وتعالى أفحم هؤلاء وتصدى لهم بالذكر الحكيم وأبان عن نواياهم ومقاصدهم وذلك ببيانه المعجز وبلاغته الفريدة وتصويره الرائع متحديا ورادا ومحللا ومفسرا ومقنعا ومدللا وكاشفا عما يعتمل في أنفسهم في آيات قصيرة المبنى عميقة المعنى.. وكان منها آية سورة " يس " التي بلغت قمة الرد المباشر على دعاويهم.. إن موضوعها يتناول قضية هامة وخطيرة جدا، وعليها قد يتحدد مصير الإسلام منذ البداية ويتحدد مستقبل الرسالة ككل فيما سيأتي.. ومن ثمة يتحدد الوضع العام للإنسان والحياة.. 

إنها قضية البحث عن مصطلح مناسب يكون اسما دالا على ذلك الكتاب المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم .. وأقول "مصطلحا" لأن "آيات يس" في اعتبارنا لا تتكلم عن الشعر فنا أو إبداعا أو قولا جماليا أو خطابا أدبيا، وإنما تشير إلى أن الإسلام يرفض الشعر مصطلحا ويرفضه تسمية ويرفضه عنوانا بمدلولاته ومفاهيمه ومضامينه وخلفياته وكل ما اكتسبه في جاهليته، يرفضه حتى لا يصبح اسما للكتاب المنزل من السماء.. لأن في هذا التغيير تعبيرا، وفي تزكيته تزكية لدلالاته، وفي السكوت عنه تسريبا لما خلفه من معان.. فبالنسبة لأهل مكة مصطلح الشعر هو المناسب لأنه سيخدم مصالحهم، وبالنسبة للخالق سبحانه مصطلح القرآن هو المناسب فهو صاحب الخطاب والأعلم بمقاصده..

ولنتساءل لماذا رفض الإسلام هذا المصطلح/التسمية ؟ أو بمعنى آخر لماذا لم يرد القرآن أن تسميه العرب شعرا ؟ أو على الأصح لماذا لم يسم الله عز وجل في علاه ما أوحى به إلى محمد صلى الله عليه وسلم شعرا كما أرادت العرب؟ لماذا أبى عليها أن تنعت ما كان يتلوه محمد صلى الله عليه وسلم أناء الليل وأطراف النهار على مسامعهم بالشعر، وأصر سبحانه على تسميته بالقرآن ؟ ولماذا أبى أن يطلق على محمد صلى الله عليه وسلم اسم الشاعر؟ وفي المقابل لماذا هذا الإصرار –من الكفار- على نعت القرآن بالشعر؟ ولماذا الدعوة إلى رفض اسم القرآن مع أنه جديد عن البيئة التي حل بها؟ لماذا هذا التعنت في وسم الرسول بالشاعرية مع أنهم يعرفونه جيدا فقد تربى بين أظهرهم؟.. 

هناك ضرورة تاريخية واجتماعية، مدنية وحضارية وقبل هذا وذاك هناك ضرورة دينية إسلامية جامعة لكل ما سبق، جعلت هذا الدين الجديد يخوض معارك عديدة وعلى مستويات كثيرة وفي جبهات مختلفة وبأسلحة متنوعة من أجل استقطاب واسع ومكثف لكل ذي عقل سليم وقلب منيب وضمير حي، وبدأ أول ما بدأ به تحديد استراتيجية واضحة تتبنى مبدأ التوحيد بمفهومه الواسع كركيزة أساس تتفرع عنه مجموعة من التحديدات والتجليات والوظائف، وكان من بينها تحديد مفهوم الوحي والكتاب، وموحيه والقائم بأمره، والموحى إليه ومبلغه.. ووظيفة كل واحد على حده وطبيعة العلاقة بين الأقطاب الثلاث انطلاقا من تحديد الأسماء أو المصطلحات الدالة عليها.. ومن بين أول ما بدأ به هو التعريف برسالته المتمثلة في الخطاب الموحى به لأن من خلال الوقوف على تعريف خاص به يتم تحديد التعاريف الأخرى المتبقية، وهذا ما سنبحثه مع وقفة إجلال للآية التي في سورة "يس" والتي أقحمت في قضية لا علاقة لها بها من حيث الوظيفة والتي هي قضية الإسلام والشعر، وهي آية ترسم لنا معالم قضية أخرى..


ما هي القضية إذن ؟

إن القضية في آية سورة "يس" ليست كتلك التي في سورة "الشعراء"، فهي لا تبحث قضية الإسلام والشعر وموقف أحدهما من الآخر، ولا توضح علاقة الإسلام بالشعر والشعراء أو الأدب والأدباء، ولا ترسم الروابط أو الفواصل ولا تحدد المسارات ولا تقف عند المنهج كما فعلت آيات الشعراء، وإنما تبحث مسألة أخرى وهي مسألة المصطلح أو الاسم القديم الموجود قبل البعثة المحمدية بقرون وهو مصطلح " الشعر " من جهة.. ومسألة المصطلح أو الاسم الجديد الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم وهو " القرآن " من جهة أخرى.. وسوف نبحث في هذين المصطلحين أو الاسمين انطلاقا من البحث في مشروعية أحدهما للدلالة على الكلام الذي بهر العرب عندما سمعته فلم يملك بعض فصحائها نفسه أن قال فيه: "والله إن لقوله الذي يقول حلاوة وإن عليه لطلاوة وإنه لمثمر أعلاه معذق أسفله وإنه ليعلو ولا يعلى عليه وإنه ليحطم ما تحته.."(7) ومن ثمة عدم مشروعية الآخر. وذلك من خلال استقصاء بعض النصوص القرآنية التي تصور أقوال الآخر في الموضوع وتشير إلى مقاصده من وراء اختياره.. ومن هذه الآيات الكريمات قوله تعالى: )بل قالوا أضغاث أحلام، بل افتراه، بل هو شاعر((الأنبياء 4وقوله سبحانه وتعالى: )ويقولون شاعر نتربص به ريب المنون((الطور 27).. وقوله عز وجل:)ويقولون أإنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون((الصافات 36).. وقوله سبحانه: )وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون((الحاقة:41).. ثم نأتي إلى بيت القصيد وهو قوله عز من قائل: )وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين لتنذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين((يس 67)..

إن الجامع بين هذه الآيات القرآنية، أو القاسم المشترك بينها هو حديثها عن كلمتين أو مصطلحين أو اسمين –كما يحلو لبعضهم- اثنين هما " الشعر" أو "القرآن" و"الشاعر" أو "الرسول" في إطار قضية مختلف فيها بين الخالق سبحانه وكفار قريش تقول حيثيات هذه القضية: " إن هناك كلاما/خطابا وإن هناك شخصا/إنسانا اختلف في تسميتهما، وتحديد مصطلح دال عليهما، موضح لهويتهما وطبيعتهما وماهيتهما ووظائفهما.. فقيل – والقيل هنا لرب العزة والجلال - إن هذا الخطاب قرآن وإن ذاك الإنسان رسول.. وقيل - والقول هنا لكبراء وكفار العرب - إن هذا الكلام شعر وإن هذا الشخص شاعر.. فجاءت الآيات الكريمة لتصف الرأي القائل بالشعرية والشاعرية وتبسط خلفياته لتدحضه مقترحة البديل الجديد الذي يعتبر ذاك الخطاب قرآنا وذاك الرجل رسولا.. بمعنى أوجز إن الله/المرسل اختار لكلامه/لخطابه/لرسالته اسما دالا هو القرآن.. في حين اختارت العرب/المتلقي المفترض اسما آخر تعنتا وحربا على هذا الذي سمعوه من محمد/المتلقي المختار، فقالوا هو الشعر، وأن محمدا شاعر.. والعرب تعلم علم اليقين أن هناك فوارق شاسعة بين الأمرين لأول مقارنة بين التسميتين وما يتفرع عنهما، إلا أنها تشبثت بقولها شعرا لحاجة في نفسها لم تقضها، سنحاول الوقوف عليها في الأسطر القادمة بعد إلقاء إطلالة سريعة على هذا الشكل الجامع لما سبق:



فالله سبحانه وتعالى يريد أن يسمي كلامه وما أوحاه – وهو أعلم بما يقول - قرآنا.. يريد أن يعطي لما أنزل - وهو صاحبه - على عبده ورسوله اسما لم تعهده العرب من قبل ولم تألفه، ذكر السيوطي في الإتقان أن الجاحظ أوضح أن الله اختار لوحيه أسماء جديدة مخالفة لما سمت العرب به كلامهم جملة وتفصيلا ... كما يريد سبحانه أن يسمي مبعوثه الذي اختاره ليبلغ عنه هذا الكلام/الخطاب إلى الناس رسولا.. في حين يريد الملأ من قريش ومن وراءهم أن يطلقوا على هذا الكلام/الخطاب اسم الشعر وليس القرآن، وعلى من أسمعهم إياه اسم الشاعر وليس الرسول.. 
إذن هناك اختلاف في تحديد الهوية واختيار التسمية الدالة على طبيعتها ومقوماتها ومكوناتها وخصائصها ومميزاتها والذي سيؤدي بطبيعة الحال إلى اختلاف في الرؤية الناتج عن اختلاف في الخلفية العقدية والبنية الدلالية والوظيفية.. فلا أحد ينكر أن الشعر شكل أدبي يختلف اختلافا بينا عن غيره من الأشكال الأخرى من حيث الطاقة والنشاط والحيوية، ومن حيث الأثر والتأثير والفاعلية، ومن حيث المكانة والأهمية التي اكتسبها في حياة الإنسانية منذ فجر تاريخ الشعر، فقد كان له أبعد الأثر في الحياة، وأخطر تأثير في الأحياء، وأرفع مكانة في المجتمعات(9) إلا أن العالم الحكيم أدرى بما شحن به هذا المصطلح من سلبيات تراكمت بفعل التاريخ والاستعمال، واكتسب ذلك على الخصوص في الحياة العربية قيل الإسلام.. لذا فهوية الشعر والشاعر شيء وهوية القرآن والرسول شيء آخر مباين:


هذا الجدول التوضيحي مستوحى من تلك الآيات القرآنية التي تقرن بين مجموعة من الأسماء والصفات والأفعال:" شاعر، وأضغاث أحلام، وافتراه، ومجنون، ونتربص به ريب المنون، وفي كل واد يهيمون، وما تنزلت به الشياطين ".. هذا الاقتران أو الجمع بين هذه المدلولات كلها إن دل على شيء فإنما يدل على انحطاط مفهوم الشعر ووظيفته والشاعر وقيمته في الفترة الأخيرة من الزمن الجاهلي وبداية تشكل الزمن الإسلامي.. لا أقول انحطاط الشعر أسلوبا للتعبير وطريقة للتصوير، فلقد كان للشعر مكانة راقية جدا في فترة طويلة من فترات تاريخ الجاهلية ثم أصيب بما تصاب به كل مكونات الحياة من اندحار وتقهقر بعد تبوء القمة على قاعدة " لكل شيء إذا ما تم نقصان"، وعلى قاعدة فهم سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه لقوله تعالى):اليوم أكملت لكم دينكم((المائدة:3).. حدثنا سفيان قال، حدثنا ابن فضيل عن هارون بن عنترة عن أبيه قال: لما نزلت: "اليوم أكملت لكم دينكم" وذلك يوم الحج الأكبر بكى عمر.. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما يبكيك؟ قال: أبكاني أنّا كنا في زيادة من ديننا، فأما إذ كمل، فإنه لم يكمل شيء إلا نقص! فقال: صدقت. (10) ومما يدعم قولنا هو ما يروى عن أبي عمرو بن العلاء أنه قال:" كانت الشعراء عند العرب في الجاهلية بمنزلة الأنبياء في الأمم حتى خالطهم أهل الحضر فاكتسبوا بالشعر فنزلوا عن رتبتهم" (11) وبهذا يمكن القول إن هناك انحطاطا على مستوى الوظيفة النفسية والاجتماعية التي كان يتمتع بها الشعر في الحياة العربية، وهو انحطاط ناجم عن انحطاط الخلفية العقدية والسلوكية للإنسان الجاهلي، في مقابل وظيفة القرآن والرسول والخلفية العقدية الإسلامية .. 
ونلحظ في إحدى الآيات ارتباطا وثيقا في ذهن العربي بين زمنين : زمن الشعر وزمن الموت.. والعلاقة التي بينهما هي علاقة احتقار واحتكار ونكران ونسيان وسطو.. والذي يمارس هذه العلاقة بكل عنف من موقع القوة هو زمن الموت، فبقدومه وحلوله ينتهي زمن الشعر حسب فكر العربي آنذاك.. أي بموت الشاعر يموت الشعر وإن بقي على الألسنة، أو تموت وظيفته وتأثيره وفاعليته ولا تبقى منه غير الذكرى والأثر والرواية.. وهذا ما كان يقصد، أو على الأقل ما كان مرجوا.. عندما قيل في حق محمد صلى الله عليه وسلم إنه شاعر نتربص به ريب المنون.. ولكن الله أثبت أن كلامه قرآن وليس شعرا، ومن ثمة فزمنه لا ينتهي بحلول زمن موت الرسول صلى الله عليه وسلم وهذا ما نلحظه من تأثير الإسلام في كل العصور والأجيال تأكيدا للوعد الذي أخذه الله على نفسه حين قال في محكم كتابه: )إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون((الحجر:9)..وهذا هو الفهم الذي ورد على لسان أبي بكر الصديق رضي الله عنه في أول خطبة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم" من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت.."

فهم وتأويل

ونعود إلى آيات سورة "يس" لأنها أثارت نقاشات منذ القديم وما زالت محط أنظار العديد من الذين يكتبون في موضوع " الإسلام والشعر " وإن كانوا لم يخرجوا عما قيل قديما.. وبقي الاختلاف والنقاش قائمين.. ولا نريد أن نقحم أنفسنا في هذا الباب لأننا نعتبره مبنيا على أسس غير واضحة ومنطلقات غير بينة.. ويظهر أن الأمر لو أوليناه هو الآخر بعضا من التحليل وأنعمنا فيه النظر وتبصرنا أكثر لوجدنا أنه لا يحتمل كل ذلك النقاش الذي أسفر في آخر المطاف عن سيطرة تامة لفهم خاص ومبتور لقوله تعالى:)وما علمناه الشعر وما ينبغي له(.. بمعنى أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يعلم الشعر ولا يعرفه ولا يفهمه ولا تربطه به أي رابطة، ولا ينبغي له ذلك بأي حال من الأحوال.. فلما وقف أصحاب هذا الرأي على بعض الأحاديث التي جاء فيها أن الرسول صلى الله عليه وسلم أنشد أو استنشد أو نقد أو شرح أو صحح.. بعض الأشعار أخذوا ينفون بعضها بحجج مختلفة، ويلتمسون لبعضها الآخر التأويل، ويأخذون بما لا يتعارض مع فهمهم للنص القرآني، فمثلا نجد المناوي يفهم الآية فهما غريبا من خلال ما ورد عنه في هذا النص *"تمثل الرسول بشعر أمية بن الصلت وصار من جملة الأحاديث.. أورده السيوطي في جامعه الصغير ورواه عن الترمذي في تفسيره وعن الحاكم في الإيمان والتوبة عن ابن عباس رضي الله عنه.. قال المنّاوي في شرحه الكبير "يجوز إنشاد الشعر للنبي صلى الله عليه وسلم وإنما المحرم إنشاؤه"*(12).. وكذلك فعل المؤوّلون بما حكي عنه صلى الله عليه وسلم من أنه كان "في بعض المشاهد وقد دميت أصبعه فقال:
هل أنت إلا إصبع دميتِ وفي سبيل الله ما لقيتِ (13)
ولكن إذا تركنا كل هذا جانبا وقرأنا بشكل مختلف قوله تعالى:)وما علمناه الشعر وما ينبغي له(بدءا من قوله تعالى:)إن هو إلا ذكر وقرآن مبين(. ثم نظرنا في:"إن هو إلا " التي تقابل دلاليا "وما علمناه" تقابلا ضديا، بمعنى أن "إن هو إلا" بمثابة نفي لمعنى ودلالة التركيب السابق: "وما علمناه"، ونفي النفي إثبات كما هو معلوم، أي "وعلمناه الذكر والقرآن المبين" وبمعنى آخر إن فعل " التعليم " الظاهر حينا والخفي حينا آخر يوجد بين نفي وإثبات، وميله إلى إحداهما له دلالة خاصة ومفهوم مخالف للآخر.. فكأني بالآية تقول: "وما علمناه الشعر وما ينبغي له، وإنما علمناه الذكر والقرآن المبين".. 

نعيد القول مرة أخرى لما نود توضيحه بهذا الشكل المتشعب، وهو أن الله سبحانه علّم عبده ورسوله محمدا صلى الله عليه وسلم وأوحى إليه كلاما وخطابا أسماه " القرآن " وأسماه " الذكر" كما هو واضح في هذه الآيات.. والعلاقة التي بين محمد صلى الله عليه وسلم والقرآن المبين والذكر هي علاقة النبي بالنبوة والرسول بالرسالة.. وليست علاقة الشاعر بالشعر والأديب بالأدب.. لأن الكلام الموحى به إليه صلى الله عليه وسلم لا يسمى شعرا كما أراد الملأ من قريش أن يفهموا الناس المدعوين والمتلقين.. 

لكن لماذا القرآن وليس الشعر ؟ ولماذا الرسول وليس الشاعر ؟ 


هذا ما سوف نجيب عنه في الجزء الرابع إن شاء الله تعالى..

   

هوامش ومراجع:

1- انظر الأخبار الواردة في تفسير سورة "المسد" في كتاب "جامع البيان عن تأويل آي القرآن" للإمام الطبري.. 
2- مجلة "الأقلام العراقية العدد الأول من السنة:12/1986من مقال الدكتور عبد الحميد إبراهيم "قضية المصطلح الأدبي" الصفحة 131
3- مجلة " فصول " المصرية العدد:3 من المجلد: 4/1984.. من مقال محمد فتوح أحمد " الحداثة من منظور اصطفائي" الصفحة:78.. 
4- وانظر كتاب الدكتور محسن عبد الحميد "المذهبية الإسلامية والتغيير الحضاري" من سلسلة "كتاب الأمة" الصادر عن مجلة الأمة القطرية.. الكتاب السادس الطبعة الأولى جمادى الآخرة 1404ه.. .. وانظر مقالة "نحو مصطلح نقدي للأدب الإسلامي" الصفحة:229 من كتاب "جمالية الأدب الإسلامي" محمد إقبال عروي الطبعة الأولى المكتبة السلفية/الدار البيضاء
5- جاء في كتاب "أسد الغابة في معرفة الصحابة" عز الدين بن الأثير تحقيق الشيخ علي محمد معوض والشيخ أحمد عبد الموجود.. دار الكتب العلمية-بيروت-لبنان الطبعة الأولى 1994م الجزء السادس(الكنى) الصفحة:97 ما يلي:"لما بلغ أبا ذر مبعث النبي صلى الله عليه وسلم قال لأخيه: اركب إلى هذا الوادي فاعلم لي علم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي يأتيه الخبر من السماء واسمع من قوله ثم ائتني، فانطلق الأخ حتى قدم وسمع من قوله، ثم رجع إلى أبي ذر فقال له: رأيته يأمر بمكارم الأخلاق، وكلاما ما هو بالشعر..." 
6- قصة الوليد بن المغيرة جاءت في كتب السيرة كسيرة ابن هشام .. وجاء في كتاب "الإتقان في علوم القرآن" للإمام جلال الدين السيوطي ما ذكره عن الحاكم عن ابن عباس من قول الوليد بن المغيرة حين قال لأبي جهل: "فو الله ما فيكم رجل أعلم بالشعر مني ولا برجزه ولا بقصيده ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذي نقول شيئا من هذا.." ج:2 ص:117 طبعة المكتبة التجارية الكبرى توزيع دار الفكر لبنان
7- الإتقان في علوم القرآن للسيوطي م.ن
8- نقلا عن كتاب "مباحث في علوم القرآن" الدكتور صبحي الصالح دار العلم للملايين بيروت/لبنان الطبعة 13/1981 الصفحة17 
9- وإن كان بعضهم يقرأ نظرة أفلاطون للشعر خطأ بأنه يقصي الشعراء ويبعدهم عن المدينة الفاضلة .. في حين هو يرى أن الشعر ينبغي أن يحث الإنسان على فعل الخير، أي أنه يطلب غايات اجتماعية للفن.. انظر كتاب: "فلسفة الإلتزام في النقد الأدبي بين النظرية والتطبيق" الدكتور رجاء عيد .. الناشر منشأة المعارف الاسكندرية 1988م .. الصفحة: 14.. الفصل الأول.. 
10-كتاب "جامع البيان عن تأويل آي القرآن" للإمام الطبري مرجع سابق، ويقول محققه الشيخ العلامة أحمد شاكر رحمه الله تعالى على هامش الحديث: " إنما عنى بنقصان الدين أهل الدين، فإنهم إذا تطاول عليهم الأمد، قست قلوبهم، وقل تمسك بعضهم بما أمر به، ومعاذ الله أن يعني عمر، نقصان الدين نفسه، ومثله قوله صلى الله عليه وسلم: "بدأ الإسلام غريبًا، وسيعود غريبًا كما بدأ ، فطوبى للغرباء". 
11-"الزينة في الكلمات الإسلامية العربية" لأبي حاتم الرازي تحقيق حسين بن فيض الله الهاني طبعة القاهرة/مصر 1957 الجزء:1 الصفحة:95 
12-"خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب" عبدالقادر البغدادي تحقيق عبدالسلام هارون القاهرة/مصر الطبعة 2/1972 ج:2 ص:295–296.

 وللبحث بقية بإذن الله تعالى 

0 تعاليق:

إرسال تعليق