class='ads'>
الخميس، يوليو 9

"حكم التجسس في الإسلام" انطلاقا من قصة حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه

حكم التجسس في الإسلام



يقول الله عز وجل: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ" (الحجرات 12)

إن الآية تنهى نهيا صريحا وقاطعا عن التجسس، وأي نوع من أنواع التجسس؟ إنه في أدنى حالاته، وهو تجسس المسلمين بعضهم على بعض وذلك بالتنصت واستراق السمع لمعرفة الأخبار، أو بإلقاء النظر وإتباع البصر للاطلاع على ما وراء الأستار، وهذا النهي يعتبر نهي تحريم لما يجره من مفاسد نفسية واجتماعية.. والتجسس خلق مذموم قد يجر صاحبه إلى أخلاق أخرى محرمة شرعا فيها وعيد كبير كأن يصبح قتاتاً "والقتات: الذي يتسمع على القوم وهم لا يعلمون ثم ينم"(النهاية في غريب الأثر لابن الأثير 4/ 18) ولقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه: "لا يدخل الجنة قتات" (رواه البخاري ومسلم وغيرهما) ولذلك شدد النبي صلى الله عليه وسلم الوعيد على المتجسس في مثل ما جاء عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا، ولا تجسسوا، ولا تناجشوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا" (متفق عليه) وعن أبي برزة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه: لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من اتبع عورة أخيه المسلم يتبع الله عورته، ومن اتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف بيته" (أحمد وأبو داود والبيهقي وأبو يعلى) هذا وعيد تكفل الله تعالى به وبإنجازه في حق من تعاطى هذا الخلق الذميم، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم جوّز فقأ العين لمن اطلع تجسسا على بيت غيره ولو من فتحة أو كوة أو نافذة روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من اطلع في بيت قوم بغير إذنهم فقد حل لهم أن يفقؤوا عينه" وجاء عن أنس رضي الله عنه: "أن رجلا اطلع من بعض حجر النبي صلى الله عليه وسلم فقام إليه النبي بمشقص أو بمشاقص فكأني أنظر إليه يختل الرجل ليطعنه" (رواه البخاري ومسلم)

إن الآية الكريمة والأحاديث الشريفة تتحدث عن التجسس في معناه العام، أي عن التجسس الذي قد لا يتعدى ضرره صاحبه، بمعنى أن المتجسَّس عليه لا يطاله ضرر ولا يمسه أذى من عملية التجسس لأن المتجسس يتجسس لصالح ذاته إرضاء لنفسه فحسب، فما بالنا بمن كان تجسسه لصالح الغير وقد يكون عدوا ومحاربا، وذلك من أجل لقيمات أو دويلرات ولقاء رضا سادته من الطواغيت... فيكون بتجسسه ذاك سببا في أذى يصيب المرء المتجسَّس عليه وقد يصل هذا الأذى بالمسلم إلى السجن أو القتل أو التعذيب جراء تلك معلومة التي أوصلها الجاسوس للطاغوت أو العدو أو المحارب... ولكن ماذا سيأكل؟ وماذا سيطعم؟ وماذا سيكسو؟ وما المركز الذي سيحتله؟ وماذا سيستفيد هذا الذي يأخذ أجرا على تجسسه؟ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من أكل برجل مسلم أُكلة فإن الله يطعمه مثلها من جهنم، ومن اكتسى برجل مسلم ثوبا فإن الله يكسوه مثله من جهنم، ومن قام برجل مسلم مقام سمعة ورياء فإن الله يقوم به مقام سمعة ورياء يوم القيامة" (رواه أبو داود وأحمد والحاكم وغيرهم) يقول صاجب (عون المعبود على شرح سنن أبي داود 13/ 154): "(من أكل برجل مسلم)أي بسبب اغتيابه والوقيعة فيه، أو بتعرضه له بالأذية عند من يعاديه،[....] معناه الرجل يكون صديقا ثم يذهب إلى عدوه فيتكلم فيه بغير الجميل ليجيزه عليه بجائزة فلا يبارك الله له فيها"

هذا من جزاء الله لعيون الطغاة وجواسيسهم الذين يلهثون خلف المادة والمتعة الدنيوية والشهوة الفانية ويضحون بأنفس تعذب وأرواح تقتل... لا أدري كيف تسول لهم أنفسهم فعل مثل هذا الجرم ثم يتبجحون بإسلامهم ويتشدقون بتدينهم ويترنحون بمناصرتهم للخلافة... فليتق الله الذين يخلطون الأمور ولا يريدون أن يتجشموا عناء البحث عن الحق والحقيقة ولا يريدون أن يكلفوا أنفسهم مشقة الاستماع والإنصات قبل الحكم على الآخرين ليبني على حكمه جواز التجسس على الموحدين، إن ما يبنى على الخطأ فهو خطأ، والذين يفكرون انطلاقا مما لا يعون أو لا يفهمون، وهم عن طلب العلم والمعرفة يتخاذلون، وبالنار هم يلعبون ويظنون أنهم يحسنون صنعا... يقول تعالى: " وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَك بِهِ عِلْمٌ إنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَر وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا" (الإسراء:36) روى البخاري وغيره عن ابن عباس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون أو يفرون منه، صُبَّ في أذنه الآنك(وهو الرصاص)يوم القيامة"

ثم ننتقل إلى ما هو أدهى وأنكى وأمر، وهو أن التجسس على الموحدين لصالح الكفار يعتبر موالاة وتوليا لهم، قال الله تعالى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاء مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ" (الممتحنة/ 1) يقول العلامة الطاهر بن عاشور رحمه الله في (التحرير والتنوير: 15/ 24) "اتفق المفسرون وثبت في صحيح الأحاديث أن هذه الآية نزلت في قضية الكتاب الذي كتب به حاطب بن أبي بلتعة حليف بني أسد بن عند العزّى من قريش، وكان حاطب من المهاجرين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أهل بدر" ويقول ابن جرير الطبري رحمه الله: "وذُكر أن هذه الآيات من أول هذه السورة نزلت في شأن حاطب بن أبي بلتعة، وكان كتب إلى قريش يطلعهم على أمر كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخفاه عنهم، وبذلك جاءت الآثار والرواية عن جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيرهم"(تفسير الطبري 23/ 311) لقد اتفق القدامى والمحدثون على أن الآيات نزلت في حاطب رضي الله عنه ودخل فعله هذا في معنى التجسس لذلك نجد عددا من المحدثين يجعلون الآيات في باب الجاسوس كما قال الإمام البخاري رحمه الله: (باب الجاسوس وقول الله تعالى: "لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء" التجسس التبحث)،ثم ذكر قصة حاطب رضي الله عنه.. وقال الإمام أبو داود رحمه الله: (باب في حكم الجاسوس إذا كان مسلما) وذكر حادثة حاطب رضي الله عنه.. وقال الإمام البيهقي رحمه الله: (باب المسلم يدل المشركين على عورة المسلمين) وساق في الباب قصة حاطب أيضا.. فما هي قصة حاطب بن بلتعة رضي الله عنه يا ترى؟ فعلى الرغم من الاختلافات الكثيرة في بعض ألفاظ الحديث إلا أنها من حيث المعنى جملة يكاد يكون واحداً، ثم أنه لا شك في صحتها، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وهذه القصة مما اتفق أهل العلم على صحتها، وهي متواترة عندهم، معروفة عند علماء التفسير، وعلماء الحديث، وعلماء المغازي والسير والتواريخ، وعلماء الفقه، وغير هؤلاء" (منهاج السنة:4/ 331) والقصة كما رواها الإمام أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم جاءت كالتالي: عن عبيد الله بن أبي رافع قال سمعت عليا رضي الله عنه يقول: "بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد، فقال: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب، فخرجنا تعادى بنا خيلنا فإذا نحن بظعينة فقلنا: أخرجي الكتاب، فقالت، ما معي كتاب، فقلنا لها: لتخرجن الكتاب أو لنلقين الثياب، فأخرجته من عقاصها، فأتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا فيه: من حاطب بن أبي بلتعة إلى أناس من المشركين ممن بمكة يخبر ببعض أمر النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ما هذا يا حاطب؟ قال: لا تعجل علي، إني كنت امرأ ملصقا في قريش، ولم أكن من أنفسها، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون بها قراباتهم، ولم يكن لي بمكة قرابة، فأحببت إذ فاتني ذلك أن أتخذ عندهم يدا، والله ما فعلته شكا في ديني، ولا رضا بالكفر بعد الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه قد صدق، فقال عمر رضي الله عنه: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنه شهد بدرا، وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ونزلت (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ)"

في الحقيقة هذه القصة لا تصور عمق العمل الجاسوسي، ولا تعطي حتى عشر مثقاله، فالجاسوسية عمل -بعد تعلم وتدريب واختبار- منظم يقوم بنقل المعلومة بشكل دقيق ويتحرى الضبط والتفصيل ما أمكن، وكلما كانت متقنة كلما استفاد الجاسوس والعميل مما قام به لأن مشغله يحفزه على ذلك.. وهي مع مرور الزمان تصبح جزءا من عقيدة محترفيها، إلى درجة أنه يصبح لا يفرق بين بعيد ولا قريب، من أجل مصلحته الشخصية يأتي على الأخضر واليابس..

ورسالة حاطب رضي الله عنه ليست كالتقارير التي ترسل ولصور التي تبعث والتفاصيل التي تحكى.. رسالة حاطب لم تتحدث عن شيء من تفاصيل ما يريده الرسول صلى الله عليه وسلم ولم تصور ما عزم على القيام به اتجاه الكفار، ولم تخبر بالخطوات المزمع تنفيذها للهجوم، ولم تفصح عن أسرار قد تفيد الكفار في حربهم ضد الرسول صلى الله عليه وسلم، بل هي رسالة تحمل في طياتها التخويف مما يقدر على فعله المسلمون في الكافرين، رسالة تزرع الرعب في العدو قبل اللقاء، وتلقي الفزع في قلبه قبل الالتحام، وتفقده الثقة في نفسه قبل الاستعداد ليوم النزال، وتربك أجناده وترعد فرائصه، رسالة تحمل بين أسطرها عقيدة صاحبها في الله تعالى وثقته في نصره، وفي رسوله صلى الله عليه وسلم وحبه وتفانيه في طاعته، إنه من أهل بدر وما أدراك ما أهل بدر ناصروا دين الله ورسوله وهم أذلة، إنه كان من أولئك الذين قالوا: "يا رسول الله، امض لما أمرك الله به، فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى:(فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون) ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فوالذي بعثك بالحق، لو سرت بنا إلى "برك الغماد" - يعني مدينة الحبشة - لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه" لقد اطلع المولى دل وعلا على قلوب أهل بدر فوجدها سليمة لذلك متعهم برحمته وعفوه، وسلامة قلب حاطب رضي الله عنه بارزة في الرسالة نفسها، ذكر يحيى بن سلام في تفسيره أن لفظ الكتاب "أما بعد، يا معشر قريش فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءكم بجيش كالليل يسير كالسيل، فوالله لو جاءكم وحده لنصره الله وأنجز له وعده، فانظروا لأنفسكم والسلام " كذا حكاه السهيلي . وروى الواقدي بسند له مرسل أن حاطبا كتب إلى سهيل بن عمرو وصفوان بن أمية وعكرمة "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن في الناس بالغزو، ولا أراه يريد غيركم، وقد أحببت أن تكون لي عندكم يد" (نيل الأوطار للشوكاني: ج8/ص13) لا داعي للإطالة بتحليل الكتابة ودراستها، لنبين الفارق الكبير والبون الشاسع بين ما قام به حاطب رضي الله عنه وما يقوم به جواسيس العصر عليهم من الله ما يستحقون، بل يمكنني القول بأنه يكفي حاطبا فخرا أنه كان سببا في نزول حكما من الله تعالى يبين لنا صفة هؤلاء الذين بين أظهرنا من جواسيس وعيون ومتربصين، ويوضح لنا الحكم الذي يستحقونه، إن الذين يتجندون في إطار التجسس على المسلمين يعتبرون بنص القرآن موالين لأعداء الله وهم الكفار بشكل عام، فإذا كان الشرع اعتبر فعل حاطب موالاة فقط لكونه كتب رسالة هي أقرب للتخويف وتثبيط الهمم والترهيب من قوة المسلمين منها إلى تقرير مفصل أو مجمل أو نقل أخبار سرية كاشفة لعورات المسلمين.. فكيف الأمر بالنسبة لمن جند نفسه لصالح فئة قائمة على حرب الله ورسوله والمؤمنين، فكيف بمن ينتسب إلى مؤسسة أو طائفة أو دائرة كل همها الغوص بين المؤمنين من جميع الجهات (منها جهة شبكات التواصل الاجتماعية) بل والمخاطرة بالنفس من أجل اصطياد معلومة أو البحث عن مكمن ضعف أو التنقيب عن عورة كتابة أو صوتا أو صورة ليقدمها لأعداء الله تعالى وأعداء رسوله صلى الله عليه وسلم وأعداء المؤمنين المخلصين مقابل حضوة معينة كيفما كان شكلها.. بالإضافة إلى هذا كله تجده صاحب القلب الفارغ إلا من حب الدنيا الزائلة وحب الشهوة الفانية وحب المال الوبال.. "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ" إن الآية القرآنية واضحة بينة ينهى الله تعالى فيها عن اتخاذ الأعداء أنصارا بالتجسس لصالحهم وبدلالتهم على ما ينفعهم من أخبار في حربهم ضد المسلمين، أو يوقع الأذية والضرر بهم، ومن فعل ذلك فقد اتخذهم أولياء ومن اتخذهم أولياء فقد ضل سواء السبيل.. ومن ثمة فإن كل آية قرآنية تتحدث عن موضوع الموالاة للكفار تحق فيهم، وكل من والى مواليا للكفار ودافع عنه ونافح أو ناصره وكثّر سواده فهو مثله في الحكم..

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم إنه هو العليم الحكيم


7/09/2015 09:52:00 ص
الثلاثاء، يوليو 7

سؤال وجواب: حول ليلة القدر المباركة بإذن الله



إن موضوع ليلة القدر من المواضيع القديمة الجديدة وما قيل فيها من قرون لا زال يتردد..
ليلة القدر هي الليلة المباركة بإذن الله تعالى التي قال فيها المولى جل وعلا: "إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ، لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ، سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ" إنها ليلة واحدة في العام كله جمعت فضائل كثيرة وميزات عديدة، "ليلة القدر مختصة بهذه الأمة، زادها الله شرفًا، فلم تكن لمن قبلها" كما يقول الإمام النووي رحمه الله وقال أيضًا: "ليلة القدر باقية إلى يوم القيامة، ويستحب طلبها والاجتهاد في إدراكها" (المجموع 6/447) إنها ليلة ليست كبقية الليالي، فيها أنزل الله أجمع كتبه وأفضل شرائع دينه، وجعل أجرها عظيما وفضلها جليلا، ومردودية حسنات العمل فيها أضعافا مضاعفة، المحروم من حرم العمل فيها فحرم أجرها ولم ينل خيرها، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه) متفق عليه.. يحث الرسول صلى الله عليه وسلم على إحياء هذه الليلة العظيمة بالإيمان والاحتساب، لتجتمع شروط القبول في لائحة المغفور لهم تلك الليلة، وكان صلى الله عليه وسلم أول العاملين، فما أمر صلى الله عليه وسلم بخير إلا وكان السباق إليه عليه الصلاة والسلام، روى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان إذا دخل العشر الأواخر أحيا الليل وأيقظ أهله وشد المئزر) وعند أحمد ومسلم:(كان يجتهد في العشر الأواخر مالا يجتهد في غيرها). ولقد كان عليه السلام يجتهد في العشر الأواخر من شهر رمضان لأن ليلة القدر فيها وخصوصا في الوتر من لياليها، وكل ما ورد كما قال ابن القيم رحمه الله من "الأحاديث التي في ليلة القدر ليس فيها حديث صريح بأنها ليلة كذا وكذا" (زاد المعاد 1/376).. ولقد عَلِمها ثم نُسّيها صلى الله عليه وسلم لحكمة أرادها الله تعالى من وراء ذلك بلا شك.. روى البخاري في صحيحه عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم ليخبرنا بليلة القدر فتلاحى (تخاصم) رجلان من المسلمين فقال: خرجت لأخبركم بليلة القدر فتلاحى فلان وفلان فرفعتْ، وعسى أن يكون خيراً لكم فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة" وروى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أُرِيتُ ليلةَ القدر ثم أيقظني بعض أهلي فنُسيتها، فالتمسوها في العشر الغوابر" فهذان الحدثان المنفصلان يبينان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علمها أو كاد مرتين، ولكن لأسباب يعلمها الله يتم نسيانه لها تحديداً وبسبب مرتين "التلاحي والإيقاظ" مما يعني أن الله تعالى أراد وإذا أراد فلا راد لما أراد سبحانه، ثم جاء عند البخاري في صحيحه من حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان" كما أنه صلى الله عليه وسلم أعطى علامات ومؤشرات دالة عليها، ولوح من قريب إلى طبيعتها، كل هذا ليقرب لنا صلى الله عليه وسلم حل مشكل هذه الليلة، وليضعنا على الصورة مباشرة وينسج أمامنا خيوطا تشير إليها وأمارات تدل عليها كي نكون على بينة من أمرها على الرغم من خفائها، فنعمل جادين لأجل إدراكها والتعرض لتجلياتها والانتفاع بخيراتها.. روى الإمام أحمد من حديث عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن أمارة ليلة القدر أنها صافية بلجة كأن فيها قمراً ساطعاً، ساكنة ساجية، لا برد فيها ولا حر، ولا يحل لكوكب أن يُرمى به فيها حتى تصبح" و أخرج مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: تذاكرنا ليلة القدر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أيكم يذكر حين طلع القمر وهو مثل شق جفنة" قال القاضي: فيه إشارة إلى أنها تكون في أواخر الشهر، لأن القمر لا يكون كذلك عند طلوعه إلا في أواخر الشهر.(النووي على شرح مسلم حديث 1170) وفي الباب روايات بين صحيحة وضعيفة.. وأما العلامة التي تأتي بعدها فهي كما قال صلى الله عليه وسلم "أن تطلع الشمس في صبيحة يومها بيضاء لا شعاع لها" كما جاء في صحيح مسلم عن أبي بن كعب. فكأن الشمس يومئذ لغلبة نور تلك الليلة على ضوئها، تطلع غير ناشرة أشعتها في نظر العيون. (النووي في شرح مسلم)
وأخيرا وليس آخرا إن العمل الجاد الدؤوب -كل عمل- في تقصي الخير بإخلاص وتجرد من كل شائبة تبطله لهو الهدف من كل ما قيل عن ستر ليلة القدر وإخفائها، فمن كان صادقا في عمله لا بد أن يبينها الله تعالى له أو أن يشعره بها طال الزمان أم قصر..
اعمل وأخلص وتوكل على الحي الذي لا يموت وادع الله وأنت موقن بالإجابة.. ادع بكل دعاء ترمي فيه إلى الخير وتقصد منه ما يقصده المؤمن الصادق، ومن أفضل الأدعية التي تردد في رمضان كله وفي هذه الليلة على الخصوص ما علمه الرسول صلى الله عليه وسلم عائشة رضي الله عنها فيما يرويه الترمذي وغيره عنها قالت: " قلت يا رسول الله أرأيت إن علمت أي ليلة ليلة القدر ما أقول فيها؟" قال: " قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني" (أحمد والنسائي وابن ماجه والحاكم وابن السني والبغوي وأبو يعلي والبيهقي)
واعلم يرحمني ويرحمك الله أنه ما لم يثبت لديك من الأعمال التي تقام في مثل هذه الأيام العشر بالدليل الساطع فلا تتبعها، فالبدع والمنكرات كثيرة في مثل هذه الأيام لإفسادها على محبي الخير فيها، فإنه "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد" كما جاء عن الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته..
والله الموفق لكل خير..




7/07/2015 09:30:00 ص
الثلاثاء، يونيو 23

سؤال وجواب:"كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ"


"كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ"

الدكتور عبد الرزاق المساوي



الحمد لله غافر الذنب، وقابل التوب، شديد العقاب، ذي الطول، لا إله إلا هو، إليه المصير، القائل في محكم كتابه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} (التحريم/8)

والصلاة والسلام على رسولنا محمد المبعوث رحمة للعالمين، وهادي الخطائين إلى سراط الله المستقيم القائل: "إِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ الْعَبْدِ ما لم يُغَرْغِرْ "رواه الترمذي وصححه الألباني. "ولا تَنْقَطِعُ التَّوْبَةُ حتى تَطْلُعَ الشَّمْسُ من مَغْرِبِهَا "رواه أبو داود وصححه الألباني. «يَا أَيُّهَا النَّاسُ تُوبُوا إِلَى اللَّهِ فإني أَتُوبُ في الْيَوْمِ إِلَيْهِ مِائَةَ مَرَّةٍ». صحيح مسلم و"الندم توبة" رواه ابن ماجة وصححه الألباني. صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرا وعلى آله وصحبه أجمعين.. وبعد:

يقول ابن القيم رحمه الله: «التوبة هي حقيقة دين الإسلام، والدين كله داخل في مسمى التوبة، وبهذا استحق التائب أن يكون حبيب الله، فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين» مدارج السالكين(1/ 306). ويقول أيضا: «ولولا أن التوبة اسم جامع لشرائع الإسلام، وحقائق الإيمان، لم يكن الرب تعالى يفرح بتوبة عبده ذلك الفرح العظيم، فجميع ما يتكلم فيه الناس من المقامات والأحوال هو تفاصيل التوبة وآثارها» المصدر نفسه (1/ 307).

أما بعد:

لقد خلق الله الخلق كلهم أجمعين لطاعته سبحانه وعبادته وتسبيحه، وجعل من بين الخلق خلقا مخيرا هو الثقلان الإنس والجن الذين أمرهم بالطاعة والعبادة ونهاهم عن المعصية والمخالفة، فهم قد فُطِروا على ذلك وخلقوا كذلك، خلقهم وسواهم وهداهم النجدين وبيّن لهم الطريقين وأوضح لهم سبيل الطاعة وسبيل المعصية، بيّنهما لهم بما أرسل من الرسل، وأنزل من الكتب، وترك لهم الخيار ومن الاختيار يترتب الجزاء، يقول تعالى: "وهديناه النجدين" (البلد:10) ويقول عز من قائل سبحانه: "إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا" (الإنسان:3) لم يتركم خالقهم سدى ولم يهملهم هباء بل بيّن وأوضح وألهم وأوحى وبعث وأنزل ووعد وأنذر "وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ" (الرعد:6) وهو سبحانه أعلم بما خلق، يعلم ضعفهم ويعرف ميولهم، لذلك أمرهم بالطاعة ونهاهم عن المعصية، ثم فتح لهم باب التوبة من المعصية، يقول تعالى: "وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى"(طـه:82) لقد أمرهم إذا وقع منهم أحد في معصية أو ارتكب  أحدهم خطيئة أو خالف بعضهم أمرا ربانيا، أن يعجل بالتوبة إليه سبحانه وتعالى، ويسرع بالأبوة إليه عز وجل، وألا يؤخر العودة إلى حياض رحمته إنه هو الرحمن الرحيم، وألا يقنط من رحمة الله، ولا ييأس من عفوه سبحانه، نستمع إليه وهو ينادي بأفضل نداء وأحب نداء وأعلى نداء وأحن نداء وأرأف نداء تشعر فيه بالرحمة والرأفة والحنان وهي تسري بين الحروف وبين الفراغات التي بين الحروف بل وفي الوجود كله وهو سبحانه ينادي آمراً رسوله صلى الله عليه وسلم "قل" وقد نسبنا ونحن العباد إليه وهو رب العباد، فيقول تعالى: "قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم" (الزمر:53) يقول سبحانه وتعالى هذا لعباده لأنه سبحانه يعلم أن الخطأ لا ينفك عن بني آدم حتى يتوفاه، وأن الذنب والمعصية والخطيئة ملازمة له، عن أنس رضي الله عنه  أَن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ" (رواه الترمذي وأحمد وان ماجة وغيرهم ، وقال الألباني في صحيح الجامع حديث حسن) ويعلم الله سبحانه أن هذا يكون كلٌّ حسب إيمانه وطاعته لربه، فمنهم مستقل ومنهم مستكثر، فالقلوب كالأواني بما مُلِئَتْ.. "فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ" (فاطر:32) ويقول الرسول صلى الله عليه وسلّم: "تُعرض الفتن على القلوب كالحصير عوداً عوداً فأي قلب أشربها نُكت فيه نُكتة سوداء وأي قلب أنكرها نُكت فيه نُكتة بيضاء حتى تصير القلوب على قلبين : على أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مرباداً كالكوز مجخياً لا يعرف مَعروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه" رواه مسلم، ويشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حالفا "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ" رواه مسلم

إن الله سبحانه وتعالى وعد التائبين على التوبة النصوح الجزاء الأوفى، وعلى الرجوع الصحيح القبول والترحيب. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "التَّوْبَةُ النَّصُوحُ الَّتِي يَقْبَلُهَا اللَّهُ يَرْفَعُ بِهَا صَاحِبَهَا إلَى أَعْظَمَ مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: " لَوْ لَمْ تَكُنْ التَّوْبَةُ أَحَبَّ الْأَشْيَاءِ إلَيْهِ لَمَا ابْتَلَى بِالذَّنْبِ أَكْرَمَ الْخَلْقِ عَلَيْهِ " (مجموع الفتاوي 10/ 293)

 وبيّن سبحانه أنه مهما ارتكب العبد من الآثام، ومهما اقترف من الذنوب، ومهما وقع في الخطايا، ثم تاب إلى الله توبة صادقة، وعاد إلى مولاه عودا طيبا، ونفض نفسه وقلبه وعقله وجسمه وكل حياته من كل ما علق بها من الخطايا والذنوب والآفات، واستغفر وأناب وأقبل على طاعة المولى سبحانه وتاب، ورد المظالم على أصحابها، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يرويه البخاري: "مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلَمَةٌ لأَخِيهِ، مِنْ عِرْضِهِ أَوْ شَيْءٍ، فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ اليَوْمَ، قَبْلَ أَنْ لاَ يَكُونَ دِينَارٌ وَلاَ دِرْهَمٌ، إِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلَمَتِهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ، فَحُمِلَ عَلَيْهِ" وأعاد الحقوق لأهلها، واستسمح كل من له عليه الحق، وبدل حُسْناً بعد سوء فسيجيبه خالقه سبحانه بقوله "فإني غفور رحيم" (النمل،11) إن الله يتوب عليه على الرغم مما فرط منه، إنه سبحانه يُكفّر عنه سيئاته على الرغم مما بدر منه، بل وقد يرفع له درجاته كلما أخلص في توبته، ويبدل سيئاته حسنات إذا نصح في أوبته، ويُصَيِّرُ حالَه بعد التوبة أفضلَ منه قبل فعل الذنب؛ فإن التوبة تمحو ما قبلها من الذنوب، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، بل تُبدل سيئاته حسنات، وينال الغفران والرحمات، يقول تعالى: "وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً. يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً. إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً" (الفرقان:68 -70) " إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً " وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لله أشد فرحا بتوبة عبده المؤمن من رجل في أرض دوية مهلكة، معه راحلته عليها طعامه وشرابه، فنام فاستيقظ وقد ذهبت، فقام يطلبها حتى أدركه العطش، ثم قال: أرجع إلى مكاني الذي كنت فيه حتى أموت، قال: فوضع رأسه على ساعده حتى يموت، فاستيقظ وعنده راحلته عليها زاده وطعامه وشرابه، فالله أشد فرحا بتوبة عبده من هذا براحلته" رواه البخاري ومسلم وغيرهما..
قال ابن القيم رحمه الله:" هذا الفرح من الله بتوبة عبده -مع أنه لم يأْت نظيره في غيرها من الطاعات- دليل على عظم قدر التوبة وفضلها عند الله، وأن التعبد له بها من أشرف التعبدات، وهذا يدل على أن صاحبها يعود أكمل مما كان قبلها" (طريق الهجرتين ص 244).

إن كل من ارتكب صغيرة أو كبيرة، ثم تاب إلى الله منها توبة نصوحا، وندم على ما بدر منه بصدق، وأقبل على الله وأحسن الإقبال، وهجر معصية الله وغادرها ولم يعد إليها بإخلاص، ثم صاحب الأخيار من الناس وسار على دربهم وسلك مسالكهم، وترك صحبة الأشرار وابتعد عن طريقهم وأبعد عنهم نفسه وخلّص منهم ذمته، ثم دامت حاله تلك حتى مات ولقي ربه: غفر الله له برحمته ومنه وفضله، ورفع درجته وأعلى رتبته، وكان أفضل بكثير من كثير ممن لم يرتكب إثما، و لم يسارع في طاعة الله مسارعة هذا التائب، ولا صار بقلبه ما صار بقلب هذا من أنواع العبودية من التوبة والندم وحب الطاعة وبغض المعصية والخوف من الله ورجاء عفوه ومغفرته.. روى مسلم عن أبي ذر قال: قال رسول اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم: "إِنِّي لَأَعْلَمُ آخِرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولًا الْجَنَّةَ، وَآخِرَ أَهْلِ النَّارِ خُرُوجًا مِنْهَا، رَجُلٌ يُؤْتَى بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُقَالُ: اعْرِضُوا عَلَيْهِ صِغَارَ ذُنُوبِهِ، وَارْفَعُوا عَنْهُ كِبَارَهَا، فَتُعْرَضُ عَلَيْهِ صِغَارُ ذُنُوبِهِ، فَيُقَالُ: عَمِلْتَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا كَذَا وَكَذَا، وَعَمِلْتَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا كَذَا وَكَذَا، فَيَقُولُ: نَعَمْ، لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُنْكِرَ وَهُوَ مُشْفِقٌ مِنْ كِبَارِ ذُنُوبِهِ أَنْ تُعْرَضَ عَلَيْهِ، فَيُقَالُ لَهُ: فَإِنَّ لَكَ مَكَانَ كُلِّ سَيِّئَةٍ حَسَنَةً، فَيَقُولُ: رَبِّ، قَدْ عَمِلْتُ أَشْيَاءَ لَا أَرَاهَا هَا هُنَا" فَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ "

قال شيخ الإسلام : "إذَا رَأَى تَبْدِيلَ السَّيِّئَاتِ بِالْحَسَنَاتِ طَلَبَ رُؤْيَةَ الذُّنُوبِ الْكِبَارِ الَّتِي كَانَ مُشْفِقًا مِنْهَا أَنْ تَظْهَرَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ حَالَهُ هَذِهِ مَعَ هَذَا التَّبْدِيلِ أَعْظَمُ مِنْ حَالِهِ لَوْ لَمْ تَقَعْ السَّيِّئَاتُ وَلَا التَّبْدِيلُ " (مجموع الفتاوى10 /293)

وقال ابن القيم رحمه الله: " سَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ -رَحِمَهُ اللَّهُ- يقول: الصَّحِيحُ أَنَّ مِنَ التَّائِبِينَ مَنْ لَا يَعُودُ إِلَى دَرَجَتِهِ - يعني قبل الذنب -، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعُودُ إِلَيْهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعُودُ إِلَى أَعْلَى مِنْهَا، فَيَصِيرُ خَيْرًا مِمَّا كَانَ قَبْلَ الذَّنْبِ .

قَالَ: وَهَذَا بِحَسَبِ حَالِ التَّائِبِ بَعْدَ تَوْبَتِهِ، وَجِدِّهِ وَعَزْمِهِ، وَحَذَرِهِ وَتَشْمِيرِهِ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ أَعْظَمَ مِمَّا كَانَ لَهُ قَبْلَ الذَّنْبِ عَادَ خَيْرًا مِمَّا كَانَ وَأَعْلَى دَرَجَةً، وَإِنْ كَانَ مِثْلَهُ عَادَ إِلَى مِثْلِ حَالِهِ، وَإِنْ كَانَ دُونَهُ لَمْ يَعُدْ إِلَى دَرَجَتِهِ، وَكَانَ مُنْحَطًّا عَنْهَا. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ هُوَ فَصْلُ النِّزَاعِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ " (مدارج السالكين 1 /302)

ويقول شيخ الإسلام رحمه الله:" الذُّنُوبُ تُنْقِصُ الْإِيمَانَ، فَإِذَا تَابَ الْعَبْدُ أَحَبَّهُ اللَّهُ، وَقَدْ تَرْتَفِعُ دَرَجَتُهُ بِالتَّوْبَةِ. فَمَنْ قُضِيَ لَهُ بِالتَّوْبَةِ كَانَ كَمَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: "إنَّ الْعَبْدَ لَيَعْمَلُ الْحَسَنَةَ فَيَدْخُلُ بِهَا النَّارَ، وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَعْمَلُ السَّيِّئَةَ فَيَدْخُلُ بِهَا الْجَنَّةَ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُ يَعْمَلُ الْحَسَنَةَ فَتَكُونُ نُصْبَ عَيْنِهِ وَيَعْجَبُ بِهَا، وَيَعْمَلُ السَّيِّئَةَ فَتَكُونُ نُصْبَ عَيْنِهِ فَيَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَيَتُوبُ إلَيْهِ مِنْهَا " (مجموع الفتاوى10 /45)

إن التوبة النصوح والتي على الرغم مما قال العلماء في شروطها ومقوماتها وخصائصها ومرتكزاتها وأركانها يقول الإمام النووي رحمه الله: "لِلتَّوْبَةِ ثَلَاثَة أَرْكَان: أَنْ يُقْلِع عَن الْمَعْصِيَة، وَيَنْدَم عَلَى فِعْلهَا، وَيَعْزِم أَنْ لَا يَعُود إِلَيْهَا، فَإِنْ تَابَ مِنْ ذَنْب ثُمَّ عَادَ إِلَيْهِ لَمْ تَبْطُل تَوْبَته، وَإِنْ تَابَ مِنْ ذَنْب وَهُوَ مُتَلَبِّسٌ بِآخَر صَحَّتْ تَوْبَته. هَذَا مَذْهَب أَهْل الْحَقّ" (شرح النووي على صحيح مسلم 2 / 45) تبقى التوبة النصوح الصافية الكاملة هي تلك التي يجد لها التائب إحساسا فريدا لا يشعر بحلاوته وحلاوتها غير التائب، ولا يستمتع بمفعولها ونشوتها وتأثيرها الإيجابي غير المتمتع بها المتمسك بأهدابها، فلا يهتم المرء بما يعكر صفو هذه الحلاوة ولا يلتفت لمن أراد أن يبطل هذا الاستمتاع، ولا يأبه بكل من يريد قطع خيط التواصل مع الكريم سبحانه كان من كان، وتأمل قول الله تبارك وتعالى: "وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً" (النساء27)، وقال الحق تبارك وتعالى: "الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء وَاللّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ" (البقرة268). فيا عبد الله إذا تبت إلى الله فكن على يقين من أنه هو الذي يغفر الذنوب جميعاً، فلا تتمادى في غيك وطيشك، ولا تتبع شهواتك، واحذر شياطين الإنس والجن فهم على كل الطرقات والمداخل، يدعون إلى النار.. وليعلم التائب أنه هو وحده في قرارة نفسه وعمق ذاته وإحساس روحه يعلم أن الله سبحانه هو الذي يتولى أمره بشكل مباشر ويذكره في ملئه ويقبله في حصنه ويعفو عنه بعفوه ويصلح حاله بعد توبته "إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَـئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً" (النساء17)، وقال سبحانه: "فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ" (المائدة39) وقال جل جلاله: "وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ" (الشورى25)

هذه التوبة النصوح تمحو كل ما سبق من الذنوب، والله سبحانه يقبل التوبة من التائبين، ويعفو عن المذنبين، ويتجاوز عن المخطئين برحمته التي وسعت كل شيء، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، والتوبة الصادقة تمحو جميع الخطايا والذنوب مهما بلغت، شريطة ألا يعود إليها وهو يشعر بزهو وحب لتلك الذنوب، لأنه في هذه الحال سيكون كما جاء عن أبى هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَال: "إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا أَخْطَأَ خَطِيئَةً نُكِتَتْ في قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ فَإِذَا هُوَ نَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ وَتَابَ سُقِلَ قَلْبُهَ وَإِنْ عَادَ زِيدَ فِيهَا حَتَّى تَعْلُوَ قَلْبَهُ وَهُوَ الرَّانُ الَّذِى ذَكَرَ اللَّهُ "كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ" (رواه الترمذي وقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيح).... قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ولو تاب العبد، ثم عاد إلى الذنب قبل الله توبته الأولى، ثم إذا عاد استحق العقوبة، فإن تاب تاب الله عليه أيضاً، ولا يجوز للمسلم إذا تاب ثم عاد، أن يُصِرَّ، بل يتوب، ولو عاد في اليوم مائة مرة" (مجموع الفتاوى 16/ 58) فعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يحكي عن ربه عز وجل قال: "أذنب عبد ذنبًا فقال: اللهم اغفر لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنبًا فعلم أن له ربًّا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، ثم عاد فأذنب، فقال: أي رب اغفر لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: عبدي أذنب ذنبًا فعلم أن له ربًّا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، ثم عاد فأذنب فقال: أي رب اغفر لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنبًا فعلم أن له ربًّا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، اعمل ما شئت فقد غفرت لك". صحيح البخاري، صحيح مسلم ومسند أحمد بن حنبل. لا تيئيس لخلق الله من رحمة الله تعالى، ولا تقنيط للناس من عفو الباري سبحانه، ورد عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "قال الله عز وجل: يا ابن آدم، إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم، لو بلغت ذنوبك عنان السماء، ثم استغفرتني غفرت لك، يا ابن آدم، إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا، لأتيتك بقرابها مغفرة" رواه الترمذي وقال: حديث حسن غريب، وذكره الحافظ في الفتح وقال: رواه ابن حبان وصححه.

هذا للتائب وهو ما يزال حيا يُرْزق فإنه في دنياه يفرح بتوبته النصوح، ويزهو بتكرار عودته إلى ربه الرؤوف الرحيم، ويسعد بأوبته بين الحين والحين إلى رحمة سيده الجواد الكريم، ليقينه بفرحة ربه به وبتوبته، أما إذا كان العبد التائب بين دنياه وأخراه فللمجال حديث آخر وللوضع كلام مغاير وقول مختلف تحكيه لنا قصة الرجل من بني إسرائيل الذي قتل مئة نفس وهو يبحث عن توبة تعيده إلى الخير وترجعه إلى رحمة ربه... عن أبي سعيد الخدري أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: "كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا، فَسَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الأَرْضِ فَدُلَّ عَلَى رَاهِبٍ، فَأَتَاهُ فَقَالَ: إِنَّهُ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا، فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ: لا، فَقَتَلَهُ فَكَمَّلَ بِهِ مِائَةً، ثُمَّ سَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الأَرْضِ، فَدُلَّ عَلَى رَجُلٍ عَالِمٍ، فَقَالَ: إِنَّهُ قَتَلَ مِائَةَ نَفْسٍ فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ: نَعَمْ وَمَنْ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ، انْطَلِقْ إِلَى أَرْضِ كَذَا وَكَذَا؛ فَإِنَّ بِهَا أُنَاسًا يَعْبُدُونَ اللَّهَ فَاعْبُد اللَّهَ مَعَهُمْ وَلا تَرْجِعْ إِلَى أَرْضِكَ فَإِنَّهَا أَرْضُ سَوْءٍ، فَانْطَلَقَ حَتَّى إِذَا نَصَفَ الطَّرِيقَ أَتَاهُ الْمَوْتُ، فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلائِكَةُ الْعَذَابِ، فَقَالَتْ مَلائِكَةُ الرَّحْمَةِ: جَاءَ تَائِبًا مُقْبِلاً بِقَلْبِهِ إِلَى اللَّهِ، وَقَالَتْ مَلاَئِكَةُ الْعَذَابِ: إِنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ, فَأَتَاهُمْ مَلَكٌ فِي صُورَةِ آدَمِيٍّ فَجَعَلُوهُ بَيْنَهُمْ، فَقَالَ: قِيسُوا مَا بَيْنَ الأَرْضَيْنِ فَإِلَى أَيَّتِهِمَا كَانَ أَدْنَى فَهُوَ لَهُ، فَقَاسُوهُ فَوَجَدُوهُ أَدْنَى إِلَى الأَرْضِ الَّتِي أَرَادَ، فَقَبَضَتْهُ مَلائِكَةُ الرَّحْمَةِ، قَالَ قَتَادَةُ: فَقَالَ الْحَسَنُ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ لَمَّا أَتَاهُ الْمَوْتُ نَأَى بِصَدْرِهِ.. رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما وغيرهما.

وأما من لقي ربه يوم القيامة بتلك التوبة النصوح الخالصة المخلصة لقيه الله تعالى برحمته الواسعة وعفوه الشامل وستره الكامل ومغفرته التامة... بينما ابن عمر رضي الله عنه يطوف، إذ عرض له رجل، فقال: يا أبا عبد الرحمن، أخبرني ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم في النجوى؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يُدْنَى المؤمن من ربه حتى يضع عليه كنفه، فيقرره بذنوبه: تعرف ذنب كذا وكذا؟ فيقول: أعرف رب، أعرف -مرتين- فيقول: سترتها عليك في الدنيا، وأغفرها لك اليوم، ثم تطوى صحيفة حسناته، وأما الآخرون - أو الكفار، أو المنافقون - فينادى بهم على رؤوس الخلائق: هؤلاء الذين كذبوا على ربهم، ألا لعنة الله على الظالمين" أخرجه البخاري ومسلم

وعن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لأعلم آخر أهل الجنة دخولا الجنة، وآخر أهل النار خروجا منها: رجل يؤتى به يوم القيامة، فيقال: اعرضوا عليه صغار ذنوبه، وارفعوا عنه كبارها، فيعرض عليه صغارها، فيقال له: عملت يوم كذا وكذا، كذا وكذا، وعملت يوم كذا وكذا، كذا وكذا؟ فيقول: نعم، لا يستطيع أن ينكر، وهو مشفق من كبار ذنوبه أن تعرض عليه، فيقال له: فإن لك مكان كل سيئة حسنة، فيقول: رب، قد عملت أشياء لا أراها هاهنا، قال: فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم - ضحك حتى بدت نواجذه أخرجه مسلم والترمذي وأحمد.

إن النصوص في هذا الموضوع كثيرة والأقوال فيه عديدة والمواعظ لا تعد ولا تحصى، ولكن المهم عندنا من هذه العجالة أن كل امرئ تاب تاب الله عليه، واستغفر ربه سيجد الله غفورا رحيما، ولكن عليه بصدق التوبة وحسن الأوبة، والندم على ما فات من الخيرات، وأن يعزم على عدم الرجوع لهذه المعاصي، وأن يكثر فيما تبقى من حياته من فعل الحسنات؛ فإن الحسنات يذهبن السيئات، وليحذر الحذر الشديد من القنوط من رحمة الله، واليأس من روْح الله، فالمولى جل وعلا أرحم الراحمين، وأكرم الأكرمين، وهو الذي وعد وهو الذي يفي سبحانه، لا يتعاظمه إثم أن يغفره، ولا ذنب أن يمحوه، ولا عيب أن يستره، ولا خطيئة أن يتجاوز عنها، ولا معصية أن يعفو عن مرتكبها، فاحرص أيها المسلم وأيتها المسلمة فأنت في دار المهلة، في دار الاختبار، في قاعة الامتحان يمكنك أن تخطئ فتراجع وتتدارك فتمحو أخطاءك وتعيد تصحيحها قبل أن تؤخذ منك الأوراق، احرص واحرصي على التوبة في كل وقت وفي كل حين، وبادر(ي) بالتوبة النصوح بعد ذنبك مباشرة لا تؤجل(ي) لا تؤخر(ي) وتسوف(ي) فلا أحد يدري متى يباغته هادم اللذات، ومفرق الجماعات "وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت" (لقمان:34) سارع(ي) إلى مغفرة شاسعة وعفو واسع ورحمة لا حدود لها، عجل(ي) قبل فوات الأوان، فصاحب الشمال لا يكتبها فوراً بل يُمْهِل مهلة من الرحمن لعلك تتوب وإلى الله تؤوب ، فعن أبي أمامةَ رضي الله عنه عن رسول اللَّه صلى اللَه عليه وسلم قال: "إِنَّ صَاحِبَ الشِّمَالِ لِيَرْفَعُ الْقَلَمَ سِتَّ سَاعَاتٍ عَنِ الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ الْمُخْطِئِ أَوِ الْمُسِيءِ، فَإِنْ نَدِمَ وَاسْتَغْفَرَ اللَّهَ مِنْهَا أَلْقَاهَا، وَإِلا كُتِبَتْ وَاحِدَةً" (رواه الطبراني وغيره، وقال الألباني في صحيح الجامع: حديث حسن) أرأيت يا عبد الله ويا أمة الله مدى سعة رحمة الله بعباده المذنبين، التائبين النادمين على ما فعلوه من معاص وآثام؟ فعلينا جميعاً أن نبادر، ونسارع بالتوبة قبل أن تفاجئنا مصيبة الموت، فيا أخي الكريم: بادر بالتوبة ولا تسوف؛ فإن التسويف من الشيطان، اقطع كل صلة تربطك بهذا الماضي السيئ، عليك بمصاحبة أهل الخير ومجالستهم، وحضور مجالس الذكر والعلم، واحذر من قرناء السوء والقرب منهم؛ فمصاحبة الفريق الأول فوز وفلاح في الدارين، ومصاحبة الفريق الثاني شر وفساد وخيبة وخسارة في الدارين، قال رسول اللّه صلى اللَه عليه وسلم: "مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ وَالْجَلِيسِ السُّوءِ كَصَاحِبِ الْمِسْكِ وَكِيرِ الْحَدَّادِ، لَنْ يَعْدَمَكَ مِنْ صَاحِبِ الْمِسْكِ أَنْ تَشْتَرِيَ مِنْهُ أَوْ يُحْذِيَكَ أَوْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا طَيِّبَةً، وَكِيرُ الْحَدَّادِ يُحْرِقُ ثِيَابَكَ أَوْ تَجِدُ مِنْهُ رِيحًا خَبِيثَةً " واظب يرحمني ويرحمك الله على الصلوات مع جماعة المسلمين، واكثر من القيام بكل الطاعات ما استطعت إلى ذلك سبيلا، وابعد نفسك كل البعد عن المعاصي والمنكرات، واقطع دابر أي شيء يوصلك إلى ذلك، أكثر من الاستغفار وقراءة القرآن بتدبر وتمعن، ولا تنس الذكر والدعاء أبدا فهما سلاح المؤمن، واصدق في اللجوء إلى الله سبحانه؛ فإن الله يصدق مع من صدق معه، واقرأ السيرة العطرة على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم، وكذلك سير السلف الصالح، وسير التائبين؛ فإن هذا كله سيكون لك عونا بعد الله على الثبات على السراط المستقيم سراط الذين أنعم الله عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين..

اللهم اجعلنا من التوابين واجعلنا من المتطهرين، اللهم تب علينا أجمعين، واغفر لنا خطايانا وارحمنا بترك المعاصي أبداً ما أبقيتنا، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

6/23/2015 01:40:00 م
السبت، يونيو 6

الدرس السابع من دروس الدورة "الطاغوت أشكال وتجليات" الجزء الثاني

الطاغوت أشكال وتجليات"
الجزء الثاني













الدكتور عبد الرزاق المساوي


الطاغوت في اللغة مشتق من الطغيان وهو مجاوزة الحد بحيث ينقلب إلى الضد، مجاوزة الحق إلى الباطل، مجاوزة الإيمان إلى الكفر، مجاوزة التوحيد إلى الشرك، مجاوزة الإسلام إلى الإلحاد، وما أشبه ذلك، والطواغيت كثيرون.. لأنّ "الطاغوت كل ما يُطْغي الإنسان" (القرطبي النساء 51)
لذلك قلنا الطاغوت مجاوزة الحق إلى الباطل.. فهو ذلك الجسر الواقعي الملموس أو الوهمي المحسوس، هو ذلك الرابط المادي البائن أو المعنوي الكامن، الذي انتصب أمام المرء أو نصّب نفسه على المرء أو نصبه المرء بإرادته واختياره على نفسه أو على غيره بأي شكل من الأشكال.. ليجتاز به أو عليه بوعي أو بغير وعي بعلم أو بغير علم من الحق إلى الباطل، ليتحول من خلاله من الإيمان إلى الكفر، لينتقل به من التوحيد إلى الشرك، ليتجاوز بواسطته من فسطاط الإسلام إلى فسطاط الإلحاد، ليمتطيه مغادرا عالم الفطرة النقية التي فطر الله الناس عليها إلى عالم الفسق والفجور والعصيان وما مقته الله في الناس، وقد يكون هذا الجسر أو ذاك الرابط عبارة عن كائن حي مرئي أو غير مرئي، أو كائن ميت، أو كائن مادي، أو كائن فكري أو نفسي أو وهمي.. وقد يكون طاغوتا بذاته يفرض نفسه على غيره بشتى الوسائل.. وقد يكون طاغوتا باختياره يعرض بضاعته على غيره ليختاروا منها بعض المسائل.. وقد لا يكون هذا ولا ذاك وإنما وقع عليه الاختيار ليصبح هو -من حيث يدري أو لا يدري- ذلك الجسر المؤدي إلى الكفر..
هذا مجمل الكلام وإليكم التفاصيل والله المستعان..
لقد اهتمت كتب التفسير وكتب التوحيد وغيرها من مؤلفات السلف رحمهم الله جميعا بلفظة "الطاغوت" أيما اهتمام وكثر فيها الكلام وتشعب فيها النقل والبيان، ونقلت كل الاختلافات في التحديد والتعريف من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين إلى تابعي التابعين رحمة الله عليهم.. ورُجِّحَ قول على قول، واختير رأي على رأي.. وتعاورت الكتب كل ذلك وسلطت الأضواء عليه وكان الهدف هو تبيان العقيدة السليمة والإيمان المعتبر من العقيدة المختلطة والإيمان الباطل.. وتوضيحهما والتمييز بينهما وتزيين الأولى وتقبيح الثانية، والدعوة للأولى والترغيب فيها.. والتنفير من الثانية والترهيب منها..
فأين يتجلى هذا الطاغوت؟ وما هي أشكاله؟ ما هي خصائصه؟ وما هي مقوماته؟ ما هي أسسه وبنياته؟ ما هي تشكلاته وتمظهراته؟
إن الطاغوت هو ذلك الكائن الذي يَعْبُرُ بالناس من ضفة الإيمان "ويؤمن بالله"(البقرة:256) إلى ضفة الكفر " وقد أُمِروا أن يكفروا به" (النساء:60)، ومن شط الإسلام والسلام "إن الدين عند الله الإسلام" إلى شط الظلم والعدوان "إن الشرك لظلم عظيم".. ولذلك وجب الكفر به "فمن يكفر بالطاغوت" واجتنابه "واجتنبوا الطاغوت" والابتعاد عن أسلاكه وخيوطه وتحريم سلوكه وعبور سبله التي على رأس كل سبيل منها شيطان يريد إضلال الناس "وقد أُمِروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً" (النساء: 60). كي يكون المرء متمسكا بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها "فمن يَكفُر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها" (البقرة:256) وحتى لا ينغمس المرء بسببه في براثين الضلال، ويتيه في متاهات الغيّ ومسالك التيه عن الحق "أولئك شرٌ مكاناً وأضل عن سواء السبيل" (المائدة:60)، أو يلج في الظلمات التي بعضها فوق بعض..
لهذا نجد الطاغوت يتمظهر في أشكال عديدة، ويبرز بوجوه مختلفة، ويجلو في صور كثيرة.. منها الظاهر ومنها الخفي، منها البارز ومنها المتربص، منها ما أخذ شكل العبادة ومنها ما أخذ شكل العادة.. وكُلٌّ قد "حقَّت عليه الضلالة فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذِّبين" (النحل:36).

1* الطاغوت ذلك الكائن الحي المرئي الملموس:

وهو عبارة عن إنسان أو حيوان يتخذه الناس معبودا لهم من دون الله تعالى (وقد تحدثنا عن مفهوم العبادة في الدروس السابقة)إما غصبا وإما اختيارا، إما خوفا وإما رغبة، إما لجر مصلحة أو لدفع مفسدة.. حسب اعتقاد من امتطى هذه المطية، فمن الناس من يعبد هذا الشكل من الطواغيت عنوة وقوة نظرا لضعفهم وهوانهم وهزالهم أمامه أو ظنهم أنهم كذلك.. فيخنعون ويخضعون ويحنون الرؤوس ويعفرون الجباه ويقدمون مظاهر الطاعة والولاء ويحققون رغبات الطغاة.. يمتثلون ولا يخالفون ويطيعون ولا يعصون ويتقدمون ولا يتخلفون.. ومنهم من يكسيه الطاغوتية ويلبسه إياها تقربا وتزلفا وحبا والتماسا للبركة وطلبا للشفاعة.. فتجده يقوم بمجموعة من الطقوس من تلقاء نفسه اتجاه من نصبه طاغوتا ليظفر بما يشاء ولو على المستوى النفسي فقط.. " والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى" (الزمر:3) " ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله" (يونس:18)
وكان إمامَ هذا الشكل وقائدَه فرعونُ موسى الذي طغى وتجبر، وعتا وتكبر، وبالطاغوتية جهر "إنه طغى" فقال: "أنا ربكم الأعلى" إن فرعون إذا قالها بعظمة لسانه فإن من الطغاة الكثيرين يقولونها بلسان حالهم وينطقونها بحال واقعهم ويسطرونها في أذهان وعقول من خنع لهم ويسلكونها في دروب حياة من خضع لهم، إنهم يسلكون بأقوامهم مسالك فرعون فلا فرق بينهم وبينه إلا في الزمان فقط وفي المكان فحسب وفي الأسماء لا غير، أما شخصياتهم وتكوينها ونفسياتهم وتعقيداتها وعقلياتهم وتركيباتها وسلوكياتهم وتجلياتها فهي نسخة مطابقة من فرعون "إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعاً يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين" (القصص:28).
إن الطاغوتية عند فرعون سلوكُ نفسٍ ومنهجُ حياةٍ وطريقةُ عيشٍ.. وهذا الشكل أو النوع من الطاغوت أمرنا الله سبحانه بالكفر به "وقد أُمِروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً" (النساء:60)
 والكفر به هنا هو القومة ضده بلا سكون، وقتاله بلا هوادة، ومحاربته بلا لين، وإقامة شعيرة الجهاد بدون رفق، فيه وفي كل مظاهره المنتمية إليه أو المؤيدة له أو الراضية بسلطانه وجبروته.. "والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفاً" (النساء:76)

2* الطاغوت ذلك الكائن الحي غير المرئي؟:

هذا هو الشكل الثاني والذي يتجلى فيه الطاغوت على هيأة كائن حي موجود لكنه غير مرئي بطبيعته التي خلقه الله تعالى عليها وأخبرنا سبحانه عنها في محكم كتابه جل في علاه وحكمة نبيّه صلى الله عليه وسلم، مثل الملائكة التي خلقت من نور والجان الذي خلق من نار.. يقول صلى الله عليه وسلم فيما يرويه الإمام مسلم في صحيحه: "خلقت الملائكة من النور، وخلق الجان من مارجٍ من نار، وخلق آدم مما وصف لكم".. ولقد كانت عبادة الناس للملائكة على وَهْمٍ منهم وسوء فهم وظنٍّ لا يمت للحقيقة بأي صلة، فالناس كانوا يعتقدون بأنهم يعبدون الملائكة ولكنهم في حقيقة أمرهم كانوا يعبدون الجن ليس إلا.. أغوتهم الجن وضللتهم الشياطين فنصّبوا في أنفسهم وانطلاقا من معتقدهم نُصُبَ الملائكة وتخيلوها معبودا لهم.. والطاغوت كما هو معلوم "هو كل ما يعبد من دون الله تعالى"، مما يوحي بأن الملائكة طاغوت لكنهم من ذلك براء، فهم في ذواتهم ليسوا طاغوتا وإن نصبوهم كذلك ".. بل عباد مكرمون، لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون، يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون، ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين" (الأنبياء:29)..
وإن توهّم بعض الناس أنهم يعبدون جنس الملائكة فإن الملائكة منهم يتبرؤون، لأنهم ما والَوْهُم قطّ وما تَوَلَّوْهُم أبداً بل يتبرؤون منهم ويعلنون الولاء لله تعالى والبراء ممن نصبهم طاغوتا يعبدونه من دون الله تعالى "ويوم يحشرهم وما يعبدون من دون الله فيقول أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلوا السبيل قالوا سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء ولكن متعتهم وآباءهم حتى نسوا الذكر وكانوا قوما بورا" (الفرقان:18) إنهم عباد مطيعون متميزون بالتفاني في الطاعة، بعيدون عن الطاغوتية وما يؤدي إليها، وإن أقحمهم الضالون فيها، لأنه سيأتي يوم الفصل "هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم" (المائدة:119) اليوم الذي يُعْرَضُ فيه الجميع على الله تعالى إنسا وجنا وملائكة ".. ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون، قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون، فاليوم لا يملك بعضكم لبعض نفعا ولا ضرا ونقول للذين ظلموا ذوقوا عذاب النار التي كنتم بها تكذبون" (سبأ:42) إنه الضلال المبين أن يعتقد المرء أنه يعبد شيئا ويجعله له إلها ويتخيل أنه يقوم بواجب العبادة له ويتوهم أنه من المحسنين في طاعتهم له، ثم يكتشف في آخر المطاف أنه كان يعبد خلقا آخر دون الذي كان يتوهمه.. تكون حينها الذلة والصغار والمهانة وسوء الحال أقل شيء يستشعره المرء لما يقف وجها لوجه أمام معبوده الوهمي وهما معا بين يدي الرب الجليل سبحانه وتعالى فيتبرأ المعبود وهما من العابد المعتقد أنه يعبد حقا وصدقا..
لهذا فإن الطاغوتية هنا لا تَجُرُّ على الملائكة شرّاً ولا تجلب لهم سوءً وهكذا فإنّ رب العالمين لم يحاسبهم على ذلك ولم يعاتبهم بل سألهم وهو أعلم بهم ليقيم الحجة على من ظن وتوهّم أن الملائكة يُعْبَدون من دون الله تعالى..
وعليه فليس كل ما يُعْبَدُ من دون الله يعتبر كافراً وطاغوتاً بالمعنى السلبي الموجب للعقاب أو العتاب.. فالأمر ليس بتلك السهولة التي رووها عن الإمام مالك رضي الله عنه: "الطاغوت هو كل ما يعبد من دون الله عز وجل " (ابن كثير النساء 51) فالطاغوت هو ذلك الذي يدفع غيره إلى الطغيان وإلى تجاوز الحدّ بالاعتداء على حق الله تعالى على العباد.. و"حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً.." كما أوضح الرسول صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل رضي الله عنه في الحديث المتفق عل صحته..
يقول القرطبي "الطاغوت كل ما يُطْغِي الإنسان" (تفسير القرطبي النساء 51) أو هو كما جاء في تفسير المنار لرشيد رضا: "كل ما تكون عبادته والإيمان به سببا للطغيان والخروج عن الحق من مخلوق يُعْبَد، ورئيس يُقَلَّد، وهوى يُتَّبَع.."
ولذلك قلنا "الطاغوت" هو ذلك الشيء الذي جعله الناس جسرا ومعبرا لتجاوز الإيمان إلى الكفر.. يعني ما أقنعوا به عقولهم وثبتوه في أنفسهم وروجوا له في واقعهم وجعلوه جزء من حياتهم.. ثم قد يكون ما اعتقدوه فعلا كما رسموه في أذهانهم وأكثر كما هو شأن فرعون، وقد لا يكون ذلك أصلا إلا منهم وإليهم لا علاقة له بما اعتقدوه ولا ما جعلوه معبودا من دون الله تعالى كما هو الحال بالنسبة للحيوانات وأيضا كما هو هنا مع الملائكة..
والأمر نفسه يقال عن رسول الله عيسى عليه السلام الذي يُعْبَدُ بشكل من الأشكال من طرف طوائف النصرانية وكل طائفة من زاوية معنية، وبمفهوم محدد وبطريقة جعلوها مناسبة لهم ولتخريجاتهم.. فهو من حيث جعلوه معبودا فقد (طَوْغَتُوهُ) لكن من حيث نظرة الشرع فبريء مبرّأ عليه السلام من الطاغوتية ومن عباد الطاغوت.. "وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب" (المائدة:116)

 وإلى لقاء آخر إن شاء الله تعالى مع الجزء الثالثمن موضوع

"الطاغوت"



6/06/2015 01:55:00 م