class='ads'>
الاثنين، يونيو 1

الجزء الأول من موضوع: **موجبات الخسف بالمغرب الأقصى**

**موجبات الخسف بالمغرب الأقصى**
الجزء الأول
الدكتور عبد الرزاق المساوي

كثر الكلام في السنين الأخيرة عن ظاهرة أرضية حتى قيل عنها "هذه الظاهرة العجيبة هي ظاهرة الفجوات البالعة من أغرب الظواهر الطبيعية." ما كانت هذه (الفجوات البالعة) متجلية في واقع الناس من قبل بالشكل الذي أضحت عليه مؤخرا، فهي في الحقيقة لم تغادر الأرض منذ نشأتها الأولى وقد أخبرنا المولى جل وعلا عنها كعقوبة عاقب الله بها أقواما عصوه وزاغوا عن أمره.. ولقد لفتت هذ الظاهرة انتباه المختصين في مجال "نظرية تكتونية الصفائح" وهو رأي علمي يحاول أن يفسر الأسباب المادية والعوامل الملموسة المسؤولة عن حدوث الزلازل والبراكين والتشوهات التكتونية وتشكل السلاسل الجبلية أي الظواهر الجيولوجية الباطنية. والغريب عند هؤلاء المهتمين من العلماء هو أنهم يدرسون كل تلك المظاهر التكتونية البارزة والمعروفة على مستوى الزلازل والبراكين والتغييرات أو التشوهات على الصفائح الباطنية، وما كان أغلبهم يعتقد إلى زمن قريب أو يرى أو يظن أن هناك خسفا يأخذ بيتا واحدا أو يذهب بسيارة واحدة مثلا، ثم إنهم يعتقدون أن الخسف الأرضي نادر الحدوث.. يقول بعضهم: " ظاهرة غريبة جداً وهي انشقاق الأرض وابتلاع البيوت بشكل مفاجئ.. عادةً كنا نسمع عن ذلك أثناء حدوث زلزال عظيم، لكن أن تنشق الأرض فجأة وتخسف بمنزل أو منزلين فقط، فهذا أمر يدعو فعلاً للاستغراب."
وما كانوا يظنونه ويرونه من خلال ممارساتهم العلمية هو أن ما يحدث إنما هو زلزال يبتلع مدينة أو قرية بالكامل أو مساحة شاسعة هذا ما كان معروفا ومشهورا حتى بدأت الظاهرة تأخذ نطاقا واسعا وتحصل في كثير من الأماكن من العالم، لقد انتشرت الظاهرة بشكل ملفت للانتباه في كثير من مناطق أمريكا وفي الصين وبعض دول آسيا (غواتيمالا، شيكاغو، فلوريدا، الصين وغيرها) وبشكل مثير جدا ومرعب جدا، والملفت هو أنها لا تحتاج إلى هزات أرضية ولا زلازل كي تحصل بل تكون على حين غفلة وتتحقق فجأة فتصدم الناس عندما تقع وهم عنها غافلون.. فيخسف بالأرض خسفا غريب الحدوث والشكل.. عملية مفاجئة تتمّ في ثوان معدودة يُبْتلع فيها المكان بمن فيه.. لو أراد الإنسان أن يقوم بها لاحتاج زمنا طويلا..
ولقد تحدث القرآن الكريم عن هذه الظاهرة موضحا أنها نوع من أنواع انتقام الله تعالى من الأقوام الذين فسقوا وطغوا وعتوا عن أمر ربهم، وأنها جند طبيعي من جنوده سبحانه يسلطهم على كل من يفسد في الأرض ولا يصلح فرادى وجماعات ولذلك يقول المولى جل وعلا: "أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ"(النحل: 45). ويقول تعالى: "أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر أو يرسل عليكم حاصبا ثم لا تجدوا لكم وكيلا"(الإسراء: 68)
ولذلك فهي تعني المستحق لها فقط دون غيره إلا من والاه، وقد يكون المستحق لهذا العقاب –كما أشرنا- فردا كما يمكن أن يكون جماعة، وقد يكون بيتا كما يمكن أن يكون قرية وما كان لذلك أن يكون إلا بظلم من العباد لأنفسهم يقول تعالى:"وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ" (العنكبوت: 40). ولذلك ينذرنا رب العالمين ويحذرنا من هذه العاقبة التي يتوعد بها كل مخالف عنيد، يقول تعالى: "أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ" (سبأ: 9).
واستغراب العلماء الماديون لهذه الظاهرة كان نتيجة تكرارها وكثرتها في عصرنا هذا بشكل متفاوت، وفي مناطق متباعدة، مما جعل الكثيرين يبحثون عن أسبابها ومسبباتها ومخلفاتها وعلاقاتها بالهزات الأرضية الخفيفة إلى غير ذلك من الأمور التي يتمنون من خلالها تفسير هذه الظاهرة الأرضية التي ألمت بهذا العصر.. وهذا الأمر -أمر الكثرة- ليس مستغربا لدى المسلم الذي يؤمن بقول الرسول صلى الله عليه وسلم من حديث رواه ابن ماجة وصححه الألباني: يقول صلى الله عليه وسلم: "سيكون في آخر الزمان خسف وقذف ومسخ..." وفي صحيح مسلم عن حذيفة بن أسيد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن الساعة لا تكون حتى تكون عشر آيات: خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف في جزيرة العرب… " ولقد كان شعار الخسف "أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور" (الملك:16) شعارا صلبا صلدا تحذيريا ترهيبيا تخويفيا.. كان دائما يقف في وجه جميع الظلمة والطواغيت والمستكبرين والجبابرة والمتسلطين والمنحلين والفاجرين والفاسقين والمنحرفين، في كل زمان وفي كل مكان، وفي هذا الزمان كل هذا حاصل وكل هؤلاء موجودون وبكثرة، وأشراط الساعة أصبحت ظاهرة للعيان بينة لمن ألقى السمع وهو شهيد..
لهذا نقول لمن يبحث عن تفسير لهذه الظاهرة من الناحية التكتونية مثلا(حيث نجد بعض العلماء يرجعونها إلى ما يحدث تحت الأرض، من تدفق للمياه وانحلال للصخور الكلسية وانجرافات تحتية نتيجة تآكل التربة و نتيجة حدوث تغير مفاجئ في منسوب المياه الجوفية مما يترك فجوات كبيرة وعميقة تحت سطح الأرض فيمكن أن ينهار معها البيت مع وجود أثقال لا تتحملها أرضية المنزل.) أو من وجهة نظر ما يسمى نظرية المؤامرة (التي يرى أصحابها بِأن ذلك مَرَدُّه إلى الحفريات التي تقوم بها النخب الحاكمة لبناء ملاجئ و أنفاق  تحت الأرض للاختباء فيها عند الضرورة، و يستدلون في ذلك على أن شكل معظم تلك الحفر دائري و يتوافق مع شكل الحفارات الدائرية التي يستعملونها لهذا الغرض..)نقول لكل هؤلاء لا بأس ابحثوا كما بدا لكم لكنكم في آخر المطاف ستبقون حبيسي الماديات الصرفة التي تعتمد على الظن ولا ترقى إلى اليقين( العمليات التكتونية والمناخية والانجرافية والمؤامراتية...) دون أن تعلموا حقيقة ما خلف كل هذه العمليات وما هو المثير الأصلي والحقيقي لكل تلك الماديات التي يمكن أن تفهم بها أسباب الظاهرة، لأن الأسباب المتجلية لا تغني عن الأسباب المتخفية، والأسباب الملموسة لن تغني عن الغيبية أبداً، واعلم أن الله تعالى يفعل ما يشاء ويختار ما كان لأحد الخيرة سبحان الله وتعالى عما يشركون، وكذلك الأمر بالنسبة لكثير من الظواهر الطبيعية التي تظهر للإنسان حركتها الغريبة ثم لا يعرف لها شرحا ولا تفسيرا ولا تأويلا اللهم إلا ما بدا له من أسباب ظاهرية قد لا تسمن ولا تغني من جوع العلم والعالم شيئا..






فقد يكون المرء على أرض صلبة لا شية فيها فتخسف فجأة، وقد يكون على ضفة نهر هادئ مطمئن فيهيج فتراه بحرا متلاطم الأمواج، وقد يكون الجو ناعما والسماء صافية فترسل حاصبا من حيث لا يدري أو تأتيه صيحة من حيث لا يحتسب تأخذ لبه وتذهب عقله بل وترديه صريعا.. في مثل هذه الحالات يحار عقل الإنسان المادي ويضل فكره ويتيه لبّه ويتخبط في سقيم تفكيره.. لكن المسلم الموحد وهو مدرك يكشف عن الأسباب الحقيقية وليست المرئية بل الحقيقية لأنها معلومة لديه من لدن العليم الخبير من خلال سبر أغوار آيات القرآن العظيم "وقارون وفرعون وهامان ولقد جاءهم موسى بالبينات فاستكبروا في الأرض وما كانوا سابقين فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون"(العنكبوت: 39 40) ولذلك سنحاول البحث عن أسباب الخسف الحقيقية الكامنة من خلال جولة إيمانية استقرائية لآي القرآن العظيم وأحاديث السنة النبوية الشريفة.. وقبل ذلك نعرّج على المعنى اللغوي للفظ "الخسف" أولا..
جاء في كتاب "أساس البلاغة" للزمخشري ما يلي:
"...خ س ف خسف القمر‏.‏
وخسفت الأرض وانخسفت‏:‏ ساخت بما عليها وخسف الله بهم الأرض‏.‏
ومن المجاز‏:‏ سامه خسفاً‏:‏ ذلاً وهواناً ورضى بالخسف‏.‏
وبات على الخسف‏:‏ على الجوع‏.‏
وشربوا على الخسف‏:‏ على غير ثفل‏.‏
وعين خاسفة‏:‏ فقئت حتى غابت حدقتها في الرأس وخسفت عينه وانخسفت‏.‏
وخسف بدنه‏:‏ هـزل وفلـان بدنـه خاسـف ولونـه كاسـف‏.‏
قـال يصف صائداً‏:‏
"أخو قترات قد تبين أنـه إذا لم يصب لحماً من الوحش خاسف"
وخسفت إبلك وغنمك وأصابتها الخسفة وهي تولية الطرق‏.‏
وإن للمال خسفتين‏:‏ خسفة في الحر وخسفة في البرد‏.‏


وجاء في "القاموس المحيط":
" خسف المكان يخسف خسوفا: ذهب في الأرض، والقمر: كسف، أو كسف: للشمس، وخسف: للقمر، أو الخسوف: إذا ذهب بعضهما، والكسوف: كلهما، وعين فلان: فقأها، فهي خسيفة، والشيء: خرقه، فخسف هو: انخرق، لازم متعد، والشيء: قطعه، والعين: ذهبت، أو ساخت، والشيء خسفا: نقص، وفلان: خرج من المرض، والبئر: حفرها في حجارة فنبعت بماء كثير، فلا ينقطع، فهي خسيف وخسوف ومخسوفة وخسيفة، ج: أخسفة، واللهُ بفلان الأرض: غيبه فيها. والخسف: النقيصة"

ويقال: "خسف: الخسوف للقمر، والكسوف للشمس (وهذا قول ثعلب كما في "اللسان" خسف)، وقال بعضهم: الكسوف فيهما إذا زال بعض ضوئهما، والخسوف: ذا ذهب كله. ويقال خسفه الله، وخُسِفَ هو، وخُسِفَ بِهِ، قال تعالى: ﴿ فخَسَفْنَا به وبداره الأرض﴾ وقال: ﴿لولا أن من الله علينا لخُسِفَ بنا﴾ وفي الحديث الذي يرويه البخاري والنسائي: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته" وعين خاسفة: إذا غابت حدقتها، فمنقول من خسف القمر، وبئر مخسوفة: إذا غاب ماؤها ونزف، منقول من خسف الله القمر. وتصور من خسف القمر مهانة تلحقه، فاستعير الخسف للذل، فقيل: تحمل فلان خسفا. والخسف هو: أن يذهب جزء من القشرة الأرضية ويغيب في الأرض، يقال خسف المكان خسوفاً إذا ذهب في الأرض وغاب فيها..
وفي "لسان العرب": خسف: الخسف: سؤوخ الأرض بما عليها. خسفت تخسف خسفا وخسوفا وانخسفت وخسفها الله وخسف الله به الأرض خسفا أي: غاب به فيها، ومنه قوله تعالى: فخسفنا به وبداره الأرض. وخسف هو في الأرض وخسف به (...) وانخسف به الأرض وخسف الله به الأرض وخسف المكان يخسف خسوفا: ذهب في الأرض، وخسفه الله تعالى. الأزهري: وخسف بالرجل وبالقوم إذا أخذته الأرض ودخل فيها. والخسف: إلحاق الأرض الأولى بالثانية."

إذا الخسف هو عملية سُؤوخٍ مفاجئ وهَوْيٍ مباغت في المدارك الباطنية للأرض تنتج عنه حفرة يتفاوت حجمها من حيث الكبر والعمق والمخلفات والنتائج والعواقب.. وتكون العملية كما قلنا مفاجئة وسريعة ولا يسبقها أي إعلان أو إعلام بهزات أو إرهاصات الوقوع.. كما يصعب من الناحية العلمية المادية ضبط أسبابها ومعرفة كيفية وقوعها.. وشكلها يأتي على مثال الصورة التالية:



هذا هو الخسف الذي يحدثنا عنه كتاب الله تعالى وجاءت على ذكره أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.. يقول تعالى: " فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ"(القصص:81) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يكون في آخر هذه الأمة خسف و مسخ و قذف قيل: يا رسول الله ! أنهلك و فينا الصالحون؟ قال: نعم إذا ظهر الخبث.." (رواه الترمذي وقال غريب من حديث عائشة لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي..)




نعم سيدتي يا أمنا يا عائشة رضي الله عنك وأرضاك، سؤال وجيه من زوجة تربت في بيت النبوة، استفسار يحمل معالم الشفقة والرأفة والحِنِّيَّة التي تتصف بها الأم العطوف.. وجواب مهم وصائب ومثير يفوح موعظة وعبرة ممن هو أرأف وأعطف وأحنّ على أمته من غيره صلى الله عليه وسلم تسليما وعلى آله أزواجه وذريته وأصحابه ومن والاه.. إنه صلى الله عليه وسلم يعي ما يقول ويدرك ما يقصده لذلك توضيحا منه وتبيانا يشير لهذه الأمة باسم الإشارة للقريب "هذه" يقصدها دون سواها ويعنيها دون غيرها، فعن عبد الرحمن بن صحار العبدي عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقوم الساعة حتى يخسف بقبائل، فيقال: من بقي من بني فلان؟ قال: فعرفت حين قال: قبائل أنها العرب، لأن العجم تنسب إلى قراها"(رواه أحمد والحاكل وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. وقال صاحب "مجمع الزوائد" رواه أحمد والطبراني وأبو يعلى والبزار ورجاله ثقات، وصحح إسناده ابن حجر في فتح الباري والسفاريني في الشرح..)


وبعد أن يحدد المعني بالأمر الذي يقع عليه فعل الخسف، يحدد صلى الله عليه وسلم زمان وقوع الفعل، ويبين في أي مرحلة من مراحل حياة هذه الأمة وفي أي زمان بالضبط فيقول: "في آخر" "سيكون في آخر هذه الأمة" ويستعمل صلى الله عليه وسلم فعل الكينونة في الاستقبال "يكون" للدلالة على الصيرورة والسيرورة، إنه وضع كائن لا محالة ومتحقق ولا بد.. ولذلك كان سؤال أمنا عائشة رضي الله عنها عن مصير الصالحين لأنها تعلم أنه صلى الله عليه وسلم ما ينطق عن الهوى.. قال "يكون في آخر هذه الأمة" سيكون لا محالة ولا ريب في ذلك.. وجاء السؤال مفعما بالأدب والتواضع وحب المعرفة والتطلع إلى الأسباب المؤدية لهذا الخسف والمسخ والقذف.. فجاء الجواب في أروع أربع كلمات دالات واضحات بينات يلفها أسلوب الشرط من كل جهة ليحدُّ من رائحة الخبث.. وكان بالإمكان الإجابة بكلمة واحدة هي "نعم" لكنه صلى الله عليه وسلم حدَّ من وقوع ظاهرة الخسف والمسخ والقذف بالشرط المتمثل في الأداة الصغيرة "إذا" إن هذا الشرط العريض والكبير على الرغم من صغر حجم أداته، إن هذا الشرط الذي جاء في جواب الرسول عليه الصلاة والسلام في آخر الحديث "نعم إذا ظهر الخبث" جاء ليضبط ما أخبر بوقوعه صلى الله عليه وسلم ويحده ويضيق عليه كي لا يطول الصالحين.. والفعل ظهر يعني ظهور الكثرة وليس مجرد الظهور ولو على القلة والعبرة في حقيقة الأمر ليس بالقلة أو الكثرة فحسب بل بكون هذه الفئة الصالحة قصرت صلاحها على نفسها ولم تقم بالدور المنوط بها والذي يفرضه عليها صلاحها.. فالظهور ظهور ولكن أن يتناسل ويتكاثر هذه هي نهاية الطريق.. فالتكاثر يدل على شدة الإهمال لذلك إذا ظهر الخبث تعني إذا كثر الخبث وعمّ العبث.. وهذا ما جاء تبيانه في رواية أخرى عن أمنا زينب بنت جحش رضي الله عنها وأرضاها "قال نعم إذا كثر الخبث" (انظر كتاب "التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد" لابن عبد البر ص:304) والخبث هو كل ما لا خير فيه.. هو كل شيء رجس ونجس في الحياة.. هو كل فساد وفاسد وإفساد في العقيدة.. هو الصدأ والرّان الذي يلف القلوب.. وهو الأوساخ والأدران التي يمثل لها بذلك الذي ينفيه ويطرحه المنفاخ أو الكير من الحديد وغيره من المعادن عند إحمائه وصناعته.. الخبث هو كل سلوك نجس و فعل منتن وحركة مكروهة وعمل ردئ.. الخبث كل ما يميز العلاقات بالفجور والفسق والتفاعل بالمكر والخداع.. الخبث في كلمة واحدة هو كل ما لا يرضي أو يرضى عنه الله جل وعلا ورسوله عليه الصلاة والسلام.. هو كل ما يعكّر صفوة " قُلْ إنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْت وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ" (الأنعام:17)  ولا يكثر الخبث ولا يظهر على سطح الحياة إلا إذا غابت الحنيفية السمحة وماتت الأنفس الطيبة وضاعت الشريعة الرادعة.. الخبث يظهر مع حكم الجاهلية، يكثر مع أحكام القوانين الوضعية، ينتشر حين تعطل أحكام الله تعالى في الحياة البشرية، يبدو عندما تختفي معالم الخلافة الربانية، ويتجلى حين تضعف الشعب الإيمانية التي أعلاها لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان.. إذا ظهر الخبث ظهور الكثرة ولا يظهر ظهور كثرة إلا إذا بقي بدون ناهٍ ولا رادع ولا متصدِّ حينها يُغْرِقُ الأخضرَ واليابس، ويُضَيِّعُ الصالحَ والطالح، لا يفرق بين هذا وذاك ولا يميز بين هذه وتلك..




فعن أنس بن مالك قال: ذكر خسف قبل المشرق، فقالوا يا رسول الله، يخسف بأرض فيها مسلمون قال: "نعم إذا أكثر أهلها الخبث" (التمهيد ص:310). هكذا بكل وضوح يصور الحديث حال الناس "إذا أكثر أهلها الخبث" تصوير بريشة أخرى وألوانا أخرى لعملية تكثير الخبث ليس الخبث هو الذي يكثر من تلقاء نفسه بل إن الناس هم الذين يكثّرونه ويجعلونه يتناسل في حياتهم.. أما إذا ظهر هذا الخبث في قلة فهو يجني على أصحابه.. يقول بلال بن سعد: "إن الخطيئة إذا أخفيت لم تضر إلا صاحبها، فإذا ظهرت لم تغير ضرت العامة"(التمهيد ص:309 وابن عساكر في تاريخ دمشق رقم 8921) يقول تعالى: ﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ (الأنفال:25)





هذا الخسف بهذا الشكل ما هي موجبات حلوله ووقوعه؟ ما هي الأسباب الداعية إلى حصوله؟ ما هي معطياته الخفية؟ ما الذي يجعله كائنا حيا في الواقع المعيش؟ بعيدا عن بحث علماء الجيولوجيا والباحثين في تكتونية الصفائح والمنقبين في السلوكات الديكتاتورية.. ندخل عالم الأسباب الحقيقية التي تكمن وراء هذا الخسف.. وانطلاقا من القرآن الكريم وأبرز مثال يضرب في هذا الباب هو الخسف بطاغوت الاقتصاد الفرعوني في عصره الذي كان يتبجح بثرواته ويستغل الخلق بماله ويستعبد الناس بممتلكاته.. بغى عليهم وتغطرس وتكبر على عباد الله وتجبر.. ملك المال والجاه وعاش الظلم والكفر إنه قارون الذي يقول فيه الله تعالى:
 تمت كتابة بتاريخ:ظهر 31 /5/ 2015م

تحميل ملف "PDF"


0 تعاليق:

إرسال تعليق