class='ads'>
الخميس، مايو 28

دراسة في: "السرد القصصي في القرآن حُسْنٌ وجَمَالٌ"

السرد القصصي في القرآن

حُسْنٌ وجَمَالٌ (*)

الدكتور عبد الرزاق المـساوي

طبيعة السرد القصصي في القرآن:
لكل شيء في الوجود طبيعته الخاصة التي يتحلى بها وتميزه عن سواه أو يمتاز بها عن غيره.. تبرزه في هيأته، وتجليه في حاله، وتظهره في شكله:
* إما في شكله الذي هو عليه بطبعه وطبيعته وفطرته التي وجد عليها أول مرة..
* وإما في شكله الذي تعارف به عليه متلقوه والمتعاملون معه الذين ألفوه وخبروه..

وللقصة بشكل عام طبيعتها التي تميزها عن غيرها من الأجناس التعبيرية والأنواع السردية والأشكال التواصلية الأخرى.. وهي طبيعة لها خصوصيات ذاتية تتمتع بها القصة ذاتها، صنعتها لنفسها بنفسها كنوع من الرسائل التي تعتمد المكونات السردية في بنائها.. ذلك أن السرد في وظيفته (" يركب ويعيد تركيب، ويبدع ويعيد تأسيس سلسلة متكاملة ومتداخلة من الوقائع والأحداث والشخصيات والخلفيات الزمانية والمكانية، لتجعل منها المادة الحكائية..")(1)، ذات المقومات المكتسبة نتيجة التفاعل الداخلي لمكوناتها الشخصية (الداخلية)، وبفعل التلاقح المستمر مع كل مكونات الفعل المعرفي والمشهد الثقافي والهندسة العلمية والخريطة الأدبية اعتمادا على يسر عالمية التواصل..
وللقصة أيضا خصوصيات مكتسبة تساهم في بناء تلك الطبيعة، يفرغ عليها هذه الخصوصيات أو يكسبها إياها المرسل: القاص أو الراوي أو السارد، على اعتبار أنه كائن حي يملك قدرات ومهارات وكفايات نفسية واجتماعية وفكرية وثقافية وعلمية وإبداعية تنتج وتبدع وتؤثر في إنتاجها وإبداعها، بل إنه يعتبر أول متلق لذلك الإبداع نظرا لما يمارسه من قراءات داخلية خاصة به بفعل التدقيق والتنقيح والتنميق، وهدف التحسين والتجميل..
كما أن من خصوصيات القصة ما يضفيه عليها متلقوها من خلال قراءاتهم المتعددة والمتتالية والمتجددة.. على اعتبار أن المتلقي هو الآخر مشارك فعال في التأسيس والبناء لكونه حاضرا حتى قبل إنتاج الرسالة/القصة كمستهدف يتمثله المرسل في ذهنه قبل وبعد الكتابة.. ثم بعد ذلك لقراءاته -هو الآخر- المتعددة والمختلفة والمتباينة أحيانا، التي يملأ بها الفراغ الذي يحيط بالنص من جميع الزوايا، ويسود بها البياض اللامتناهي الذي يغشى السطور والتعابير والكلمات.. ويضيف ما بقيت تحتاجه الرسالة في مستويات تركيبتها الأخيرة فهما وتفسيرا وتأويلا وحتى ليّاً لعنقها أحيانا.. وقد تجتمع كل هذه الخصوصيات – في أعلى مستوياتها – أو يتحقق بعضها - قل أو كثر - لتصاغ في الأخير تلك الطبيعة الخاصة بالقصة ولو في أدنى مكوناتها كطبيعة رسالية/سردية/قصصية.. والقصة القرآنية لها خصوصياتها التي تتشكل منها طبيعتها الداخلية – من جهة - بحكم البناء الذاتي المتنامي دائما بشكل تلقائي، وبحكم تفاعلها المستمر مع باقي مكونات الخطاب الذي تنتمي إليه والذي هو الخطاب القرآني.. وطبيعتها الخارجية–من جهة أخرى-بحكم أنها:
         1: ملفوظ سامي صدر عن ذات عالية متعالية علوا كبيرا، يمكن اعتبارها السارد الأعلى ولله سبحانه وتعالى المثل الأعلى..
         2: متلقاة -ومشتغل عليها- عبر سيرورة زمانية وصيرورة مكانية من طرف ما لا نهاية من المتلقين المنفعلين والمتفاعلين وحتى المغرضين أيضا..
         3: معرضة لكثير من القراءات المختلفة المناحي والمتعددة المشارب والتي تراكمت عبر التاريخ حاملة عصارة أفكار أصحابها/المتلقين..
هذه الخصوصيات ضمن مجموعة من الخصوصيات الأخرى التي يمكن الإشارة إليها في العناوين التالية:   
*القصة حق وحقيقة..
*القصة والشهود الإلهي..
*القصة بيان وبرهان..
*القصة القرآنية هادفة..
وهي كلها يقوم عليها السرد القصصي في القرآن وتؤطره، وينفرد بها عن غيره وتكسبه مميزات يرقى بها عما سواه، كما أنها تحدد طبيعته المكونة له، ووظائفه التي يقوم بها داخل وخارج الخطاب القرآني، والتي تتمثل في العناوين التالية:
* القصة ترسيخ لعقيدة التوحيد..
*القصة إثبات للوحي إلى رسول الله..
*القصة تثبيت لفؤاد الرسول..
* القصة تبشير بنصر الله..
*القصة عبر ومواعظ
ومن أبرز ما سوف نتناوله في هذه الأسطر خصوصية تعتبر مما يميز السرد القصصي في القرآن وهي حُسْنِيَّتُهُ وجماليته..

 *السرد القصصي في القرآن حسن وجمال..
إن هذه الخصوصيات السالفة الذكر التي تميز طبيعة القصة القرآنية تستدعي بطبعها خصوصية مهمة وجليلة ولا يمكن الاستغناء عنها بأي حال من الأحوال، فهي تحتاجها لكي تظهر بالمظهر الذي يليق بها كخصوصيات متميزة وعالية على المستوى المضموني والمعرفي والفكري، وهذه الخصوصية التي ستقوم بهذه المهمة الجليلة التي هي إبراز الجانب المضموني والفكري والمعرفي في السرد القصصي في القرآن العظيم، هي الحسن بكل مفاهيمه ودلالاته وخصائصه ومرتكزاته ومقوماته وتجلياته وبكل حمولاته... إنه هو ما تميزت به القصة القرآنية كمكون دعوي وتربوي أساس من مكونات الخطاب القرآني الكريم، وذلك على كل مستوياتها من حيث المبنى والمعنى والشكل والمضمون والأسلوب والموضوع وعلى مستوى الكليات والجزئيات.. وبمعنى آخر إن الحسن طال البنية السردية للقصة القرآنية ككل، ولم يقتصر فيها على مكون دون مكون ولم يقف عند جانب دون آخر، بل تمكن الحسن والجمال منها كلها وغمرها بشكل عام، وبرز فيها بكل جلاء ووضوح..
إذن فمن الخصوصيات المميزة لطبيعة القصة القرآنية أنها من أحسن القصص وأفضلها وأجودها وأجملها وأبهاها وأرفعها وأرقاها.. لكونها اشتملت على مجموعة من الخصائص التي قد لا تتوفر في غيرها.. يقول تعالى: ﴿نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن (يوسف: 3)..
فإذا كان القصص من القرآن، والقرآن كلام الله تعالى، والله جميل بل هو الجمال عينه ويحب الجمال، فلا يصدر عن الجمال إلا الجمال والحسن..
فكان ما جاء من القصص في القرآن الكريم من أفضل وأحسن وأجمل وأجود القصص في موضوعها وأسلوبها ولغتها وبنائها واختيارها وانتقائها ومواقعها من النص القرآني وطريقة قصها ووظيفتها وأهدافها ومراميها ومقاصدها.. وقد أتينا على ذكر بعض هذه القضايا في بحث آخر، ولا بأس أن نبدأ الحديث عن هذه الخصوصية انطلاقا من الإشارة التي جاءت قبل الآية السابقة من سورة يوسف عليه السلام حيث يقول المولى جل وعلا بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم:﴿ألر تلك آيات الكتاب المبين إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون (يوسف:2)
﴿إنا أنزلناه قرآنا عربيا ﴾.. اللغة كما هو معروف تعتبر عصب القصة ونخاعها، وكذلك بالنسبة لغير القصة من أساليب التعبير والتواصل اللغويين، وبجماليتها المتجلية في طبيعتها التكوينية من حيث أصواتها وحروفها وألفاظها وتراكيبها، ومن حيث فصاحتها وبلاغتها وجرسها وأدواتها التصويرية وريشتها المبدعة وحسنها..هذه اللغة هي التي تبرز وتثبت حسن وجمال القص.. فما بالنا إذا كانت لغة القصص القرآني هي نفسها اللغة القرآنية التي نزل بها الوحي من عند الله تعالى: ﴿ وإنه لتنزيل رب العالمين * نزل به الروح الأمين * على قلبك لتكون من المنذرين * بلسان عربي مبين (الشعراء:195)..
إن القصة في القرآن الكريم كائن لغوي حيوي وجمالي.. وهذا مكون ميزة قد لا يلقي له بعضنا بالا، وقد يشتغل بعضنا بمكونات أخرى، كمكون مضمون أو موضوع القصة أو تاريخيتها، أو بعض الشبهات المثارة حولها.. ومع ذلك فمكون اللغة يفرض نفسه على المتلقي وبإلحاح..
أولا : لأن لغة السرد القصصي في القرآن الكريم كائن عربي فصيح وبليغ، يتميز بكل المقومات اللغوية التي تؤهله لأن يحتل مرتبة عالية من الناحية الأسلوبية والبلاغية والتعبيرية والتواصلية.. ثم هو يدخل في عموم قوله تعالى : ﴿ وهذا لسان عربي مبين (النحل: 103)  فهو موصوف بالبيان وبالفصاحة وبالوضوح في الأداء التواصلي حتى يتمكن من أن يكون ذلك القول البليغ النافذ إلى نفس المتلقي وفكره وعقله ووجدانه وجميع كيانه مصداقا لقوله تعالى : ﴿ وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا (النساء: 63)
ثانيا : لأن هذا المكون هو الذي يأتي وراء جمال ما اصطلح على تسميته بالتكرار في كثير من قصص القرآن، وأنا أعتبر أن في الأمر جمالية وليس تكرارية(2).. يقول الباقلاني:( قد يتفاوت كلام  الناس عند إعادة ذكر القصة الواحدة تفاوتا بينا، ويختلف اختلافا كبيرا. ونظرنا القرآن فيما يعاد ذكره من القصة الواحدة فرأيناه غير مختلف ولا متفاوت بل هو على نهاية البلاغة وغاية البراعة )(3)..
ثم بعد اللغة في شكل الأداة الجميلة الحاملة للموضوع الجميل فإن هذه الأحسنية أو الأفضلية أو الجمالية بنيت في شكل آخر، وارتكزت على ما يمكن أن نسميه مبدأ الاختيار والانتقاء بناء على الإرادة الإلهية التي من خلالها تتحقق المنفعة البشرية، ففي التاريخ الإنساني قصص لا تعد ولا تحصى، وقصص الأنبياء مع أقوامها.. وحكايات الرسل مع المؤمنين والكافرين.. وروايات الأمم السابقة نفسها كثيرة جدا.. ولم يقص منها القرآن الكريم - على الرغم من اعتمادها بشكل واسع في دعوته - إلا القليل بناء على مبدإ الجودة والحسن فيما يفيد المتلقي ويحقق الغايات والمرامي، بمعنى آخر إن القصص التي ورد ذكرها في القرآن الكريم منتقاة من مجموع قصص كثيرة منتشرة على المساحة الزمانية والمكانية للتاريخ البشري منذ بداية الخليقة.. ولا بد أنها كلها خضعت لمجموعة من الشروط الربانية التي يجب أن تتوافر فيها كي ينزلها الله سبحانه وتعالى وحيا تقص وتلقى وتحكى وتسرد على المتلقي الذي يجب أن يستفيد منها لما تحمله في ذاتها من أمور جليلة – كانت هي الشروط نفسها -  سوف نطرح بعضها لاحقا في دراسة أخرى تحت عنوان " وظائف القصة " التي أشرنا إليها أعلاه.. وبهذا أيضا يمكن أن نفهم سبب التكرار في قصص القرآن، فالجميل لا يترك ولا يمل.. وصياغته في أشكال مختلفة لغويا لا يعتبر تكرارا..
يقول الله تعالى ساردا علينا مجموعة من أسماء كوكبة الأنبياء والرسل عليهم السلام لتتضح لنا الرؤية فيما يتعلق بقضية الانتقاء والاختيار واعتماد الأحسنية والأفضلية لتحقيق الرؤية الجمالية للسرد القصصي في الكتاب المبين.. من هذا المنطلق نفهم الآية التالية:﴿ورسلا قد قصصناهم عليك ورسلا لم نقصصهم عليك﴾ التي جاءت بعد قوله تعالى:﴿إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيئين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داوود زبورا * ورسلا قد قصصناهم عليك ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما (النساء:163)..  ويقول تعالى في المعنى نفسه:﴿ولقد أرسلنا رسلا من قبلك منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك..(غافر:77)
  يمكن أيضا أن نفهم من عملية الانتقاء الإلهي والاختيار الرباني أنها لم تتم بين شخصيات الرسل الكرام والأنبياء الأفاضل فحسب، بل تمت أيضا حتى على مستوى الشخصية الواحدة، بحيث نجد القرآن العظيم يقص علينا من حياة رسول أو نبي واحد مثلا حلقة واحدة أو حلقات مختلفة – قد تكون قليلة وقد تكون كثيرة وقد تأتي قصيرة كما يمكن أن تأتي طويلة - من ولادته إلى موته، كما اختار من أخرى أحداثا معينة ومظاهر محددة يحقق بها أهداف الرسالة القرآنية فقط، لذلك جاءت لقطة من هذا وشذرات من ذاك، وتوسع القص هنا وتركز هناك وتفرق هنالك وتكرر في أماكن أخرى من خريطة النص القرآني وهندسته.. فالمهم هو أن يتحقق مبدأ " أحسن القصص " من جميع جوانبه وأن تكتمل الجمالية فيه وأن يرقى بالمتلقي إلى ما يصبو إليه من إيمان بالحق واتباعه..

هوامش ومراجع:
 * هذا جزء من دراسة تحت عنوان : " قراءة جديدة للسرد القصصي في الخطاب القرآني "..
(1) التمثيل السردي في رواية الكوني عبد الله إبراهيم – علامات: ج:32 – م: 8/1999 الصفحة:326
(2) تناولنا ظاهرة ما يسمى التكرار في القصص القرآني في دراسة مستقلة نرجو أن تنشر قريبا..
(3) "إعجاز القرآن" لأبي بكر الباقلاني تحقيق السيد أحمد صقر دار المعارف مصر الطبعة الثالثة الصفحة: 37 و38  


"PDF" تحميل ملف 

0 تعاليق:

إرسال تعليق