class='ads'>
السبت، يونيو 6

الدرس السابع من دروس الدورة "الطاغوت أشكال وتجليات" الجزء الثاني

الطاغوت أشكال وتجليات"
الجزء الثاني













الدكتور عبد الرزاق المساوي


الطاغوت في اللغة مشتق من الطغيان وهو مجاوزة الحد بحيث ينقلب إلى الضد، مجاوزة الحق إلى الباطل، مجاوزة الإيمان إلى الكفر، مجاوزة التوحيد إلى الشرك، مجاوزة الإسلام إلى الإلحاد، وما أشبه ذلك، والطواغيت كثيرون.. لأنّ "الطاغوت كل ما يُطْغي الإنسان" (القرطبي النساء 51)
لذلك قلنا الطاغوت مجاوزة الحق إلى الباطل.. فهو ذلك الجسر الواقعي الملموس أو الوهمي المحسوس، هو ذلك الرابط المادي البائن أو المعنوي الكامن، الذي انتصب أمام المرء أو نصّب نفسه على المرء أو نصبه المرء بإرادته واختياره على نفسه أو على غيره بأي شكل من الأشكال.. ليجتاز به أو عليه بوعي أو بغير وعي بعلم أو بغير علم من الحق إلى الباطل، ليتحول من خلاله من الإيمان إلى الكفر، لينتقل به من التوحيد إلى الشرك، ليتجاوز بواسطته من فسطاط الإسلام إلى فسطاط الإلحاد، ليمتطيه مغادرا عالم الفطرة النقية التي فطر الله الناس عليها إلى عالم الفسق والفجور والعصيان وما مقته الله في الناس، وقد يكون هذا الجسر أو ذاك الرابط عبارة عن كائن حي مرئي أو غير مرئي، أو كائن ميت، أو كائن مادي، أو كائن فكري أو نفسي أو وهمي.. وقد يكون طاغوتا بذاته يفرض نفسه على غيره بشتى الوسائل.. وقد يكون طاغوتا باختياره يعرض بضاعته على غيره ليختاروا منها بعض المسائل.. وقد لا يكون هذا ولا ذاك وإنما وقع عليه الاختيار ليصبح هو -من حيث يدري أو لا يدري- ذلك الجسر المؤدي إلى الكفر..
هذا مجمل الكلام وإليكم التفاصيل والله المستعان..
لقد اهتمت كتب التفسير وكتب التوحيد وغيرها من مؤلفات السلف رحمهم الله جميعا بلفظة "الطاغوت" أيما اهتمام وكثر فيها الكلام وتشعب فيها النقل والبيان، ونقلت كل الاختلافات في التحديد والتعريف من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين إلى تابعي التابعين رحمة الله عليهم.. ورُجِّحَ قول على قول، واختير رأي على رأي.. وتعاورت الكتب كل ذلك وسلطت الأضواء عليه وكان الهدف هو تبيان العقيدة السليمة والإيمان المعتبر من العقيدة المختلطة والإيمان الباطل.. وتوضيحهما والتمييز بينهما وتزيين الأولى وتقبيح الثانية، والدعوة للأولى والترغيب فيها.. والتنفير من الثانية والترهيب منها..
فأين يتجلى هذا الطاغوت؟ وما هي أشكاله؟ ما هي خصائصه؟ وما هي مقوماته؟ ما هي أسسه وبنياته؟ ما هي تشكلاته وتمظهراته؟
إن الطاغوت هو ذلك الكائن الذي يَعْبُرُ بالناس من ضفة الإيمان "ويؤمن بالله"(البقرة:256) إلى ضفة الكفر " وقد أُمِروا أن يكفروا به" (النساء:60)، ومن شط الإسلام والسلام "إن الدين عند الله الإسلام" إلى شط الظلم والعدوان "إن الشرك لظلم عظيم".. ولذلك وجب الكفر به "فمن يكفر بالطاغوت" واجتنابه "واجتنبوا الطاغوت" والابتعاد عن أسلاكه وخيوطه وتحريم سلوكه وعبور سبله التي على رأس كل سبيل منها شيطان يريد إضلال الناس "وقد أُمِروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً" (النساء: 60). كي يكون المرء متمسكا بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها "فمن يَكفُر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها" (البقرة:256) وحتى لا ينغمس المرء بسببه في براثين الضلال، ويتيه في متاهات الغيّ ومسالك التيه عن الحق "أولئك شرٌ مكاناً وأضل عن سواء السبيل" (المائدة:60)، أو يلج في الظلمات التي بعضها فوق بعض..
لهذا نجد الطاغوت يتمظهر في أشكال عديدة، ويبرز بوجوه مختلفة، ويجلو في صور كثيرة.. منها الظاهر ومنها الخفي، منها البارز ومنها المتربص، منها ما أخذ شكل العبادة ومنها ما أخذ شكل العادة.. وكُلٌّ قد "حقَّت عليه الضلالة فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذِّبين" (النحل:36).

1* الطاغوت ذلك الكائن الحي المرئي الملموس:

وهو عبارة عن إنسان أو حيوان يتخذه الناس معبودا لهم من دون الله تعالى (وقد تحدثنا عن مفهوم العبادة في الدروس السابقة)إما غصبا وإما اختيارا، إما خوفا وإما رغبة، إما لجر مصلحة أو لدفع مفسدة.. حسب اعتقاد من امتطى هذه المطية، فمن الناس من يعبد هذا الشكل من الطواغيت عنوة وقوة نظرا لضعفهم وهوانهم وهزالهم أمامه أو ظنهم أنهم كذلك.. فيخنعون ويخضعون ويحنون الرؤوس ويعفرون الجباه ويقدمون مظاهر الطاعة والولاء ويحققون رغبات الطغاة.. يمتثلون ولا يخالفون ويطيعون ولا يعصون ويتقدمون ولا يتخلفون.. ومنهم من يكسيه الطاغوتية ويلبسه إياها تقربا وتزلفا وحبا والتماسا للبركة وطلبا للشفاعة.. فتجده يقوم بمجموعة من الطقوس من تلقاء نفسه اتجاه من نصبه طاغوتا ليظفر بما يشاء ولو على المستوى النفسي فقط.. " والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى" (الزمر:3) " ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله" (يونس:18)
وكان إمامَ هذا الشكل وقائدَه فرعونُ موسى الذي طغى وتجبر، وعتا وتكبر، وبالطاغوتية جهر "إنه طغى" فقال: "أنا ربكم الأعلى" إن فرعون إذا قالها بعظمة لسانه فإن من الطغاة الكثيرين يقولونها بلسان حالهم وينطقونها بحال واقعهم ويسطرونها في أذهان وعقول من خنع لهم ويسلكونها في دروب حياة من خضع لهم، إنهم يسلكون بأقوامهم مسالك فرعون فلا فرق بينهم وبينه إلا في الزمان فقط وفي المكان فحسب وفي الأسماء لا غير، أما شخصياتهم وتكوينها ونفسياتهم وتعقيداتها وعقلياتهم وتركيباتها وسلوكياتهم وتجلياتها فهي نسخة مطابقة من فرعون "إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعاً يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين" (القصص:28).
إن الطاغوتية عند فرعون سلوكُ نفسٍ ومنهجُ حياةٍ وطريقةُ عيشٍ.. وهذا الشكل أو النوع من الطاغوت أمرنا الله سبحانه بالكفر به "وقد أُمِروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً" (النساء:60)
 والكفر به هنا هو القومة ضده بلا سكون، وقتاله بلا هوادة، ومحاربته بلا لين، وإقامة شعيرة الجهاد بدون رفق، فيه وفي كل مظاهره المنتمية إليه أو المؤيدة له أو الراضية بسلطانه وجبروته.. "والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفاً" (النساء:76)

2* الطاغوت ذلك الكائن الحي غير المرئي؟:

هذا هو الشكل الثاني والذي يتجلى فيه الطاغوت على هيأة كائن حي موجود لكنه غير مرئي بطبيعته التي خلقه الله تعالى عليها وأخبرنا سبحانه عنها في محكم كتابه جل في علاه وحكمة نبيّه صلى الله عليه وسلم، مثل الملائكة التي خلقت من نور والجان الذي خلق من نار.. يقول صلى الله عليه وسلم فيما يرويه الإمام مسلم في صحيحه: "خلقت الملائكة من النور، وخلق الجان من مارجٍ من نار، وخلق آدم مما وصف لكم".. ولقد كانت عبادة الناس للملائكة على وَهْمٍ منهم وسوء فهم وظنٍّ لا يمت للحقيقة بأي صلة، فالناس كانوا يعتقدون بأنهم يعبدون الملائكة ولكنهم في حقيقة أمرهم كانوا يعبدون الجن ليس إلا.. أغوتهم الجن وضللتهم الشياطين فنصّبوا في أنفسهم وانطلاقا من معتقدهم نُصُبَ الملائكة وتخيلوها معبودا لهم.. والطاغوت كما هو معلوم "هو كل ما يعبد من دون الله تعالى"، مما يوحي بأن الملائكة طاغوت لكنهم من ذلك براء، فهم في ذواتهم ليسوا طاغوتا وإن نصبوهم كذلك ".. بل عباد مكرمون، لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون، يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون، ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين" (الأنبياء:29)..
وإن توهّم بعض الناس أنهم يعبدون جنس الملائكة فإن الملائكة منهم يتبرؤون، لأنهم ما والَوْهُم قطّ وما تَوَلَّوْهُم أبداً بل يتبرؤون منهم ويعلنون الولاء لله تعالى والبراء ممن نصبهم طاغوتا يعبدونه من دون الله تعالى "ويوم يحشرهم وما يعبدون من دون الله فيقول أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلوا السبيل قالوا سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء ولكن متعتهم وآباءهم حتى نسوا الذكر وكانوا قوما بورا" (الفرقان:18) إنهم عباد مطيعون متميزون بالتفاني في الطاعة، بعيدون عن الطاغوتية وما يؤدي إليها، وإن أقحمهم الضالون فيها، لأنه سيأتي يوم الفصل "هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم" (المائدة:119) اليوم الذي يُعْرَضُ فيه الجميع على الله تعالى إنسا وجنا وملائكة ".. ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون، قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون، فاليوم لا يملك بعضكم لبعض نفعا ولا ضرا ونقول للذين ظلموا ذوقوا عذاب النار التي كنتم بها تكذبون" (سبأ:42) إنه الضلال المبين أن يعتقد المرء أنه يعبد شيئا ويجعله له إلها ويتخيل أنه يقوم بواجب العبادة له ويتوهم أنه من المحسنين في طاعتهم له، ثم يكتشف في آخر المطاف أنه كان يعبد خلقا آخر دون الذي كان يتوهمه.. تكون حينها الذلة والصغار والمهانة وسوء الحال أقل شيء يستشعره المرء لما يقف وجها لوجه أمام معبوده الوهمي وهما معا بين يدي الرب الجليل سبحانه وتعالى فيتبرأ المعبود وهما من العابد المعتقد أنه يعبد حقا وصدقا..
لهذا فإن الطاغوتية هنا لا تَجُرُّ على الملائكة شرّاً ولا تجلب لهم سوءً وهكذا فإنّ رب العالمين لم يحاسبهم على ذلك ولم يعاتبهم بل سألهم وهو أعلم بهم ليقيم الحجة على من ظن وتوهّم أن الملائكة يُعْبَدون من دون الله تعالى..
وعليه فليس كل ما يُعْبَدُ من دون الله يعتبر كافراً وطاغوتاً بالمعنى السلبي الموجب للعقاب أو العتاب.. فالأمر ليس بتلك السهولة التي رووها عن الإمام مالك رضي الله عنه: "الطاغوت هو كل ما يعبد من دون الله عز وجل " (ابن كثير النساء 51) فالطاغوت هو ذلك الذي يدفع غيره إلى الطغيان وإلى تجاوز الحدّ بالاعتداء على حق الله تعالى على العباد.. و"حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً.." كما أوضح الرسول صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل رضي الله عنه في الحديث المتفق عل صحته..
يقول القرطبي "الطاغوت كل ما يُطْغِي الإنسان" (تفسير القرطبي النساء 51) أو هو كما جاء في تفسير المنار لرشيد رضا: "كل ما تكون عبادته والإيمان به سببا للطغيان والخروج عن الحق من مخلوق يُعْبَد، ورئيس يُقَلَّد، وهوى يُتَّبَع.."
ولذلك قلنا "الطاغوت" هو ذلك الشيء الذي جعله الناس جسرا ومعبرا لتجاوز الإيمان إلى الكفر.. يعني ما أقنعوا به عقولهم وثبتوه في أنفسهم وروجوا له في واقعهم وجعلوه جزء من حياتهم.. ثم قد يكون ما اعتقدوه فعلا كما رسموه في أذهانهم وأكثر كما هو شأن فرعون، وقد لا يكون ذلك أصلا إلا منهم وإليهم لا علاقة له بما اعتقدوه ولا ما جعلوه معبودا من دون الله تعالى كما هو الحال بالنسبة للحيوانات وأيضا كما هو هنا مع الملائكة..
والأمر نفسه يقال عن رسول الله عيسى عليه السلام الذي يُعْبَدُ بشكل من الأشكال من طرف طوائف النصرانية وكل طائفة من زاوية معنية، وبمفهوم محدد وبطريقة جعلوها مناسبة لهم ولتخريجاتهم.. فهو من حيث جعلوه معبودا فقد (طَوْغَتُوهُ) لكن من حيث نظرة الشرع فبريء مبرّأ عليه السلام من الطاغوتية ومن عباد الطاغوت.. "وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب" (المائدة:116)

 وإلى لقاء آخر إن شاء الله تعالى مع الجزء الثالثمن موضوع

"الطاغوت"



0 تعاليق:

إرسال تعليق