class='ads'>
الأربعاء، مايو 6

الدرس السادس من دروس الدورة الشرعية "الكفر بالطاغوت والإيمان بالله"

 "الكفر بالطاغوت والإيمان بالله"

الدكتور عبد الرزاق المساوي


الجزء الأول
وقفنا فيما مضى من الدروس على معرفة كلمة التوحيد "لا إله ألا الله" على أنها نفي وإثبات، ومن مضامين النفي في "لا إله" نجد مفهوم "الطاغوت" والطاغوت مفردة قرآنية ميزها الدرس الإيماني في القرآن كما ميز كثيراً من المفردات وأعطاها عديدا من الشحنات الدلالية الإضافية لتؤدي المعاني التي تخدم قضية التوحيد الموضوع الرئيس في دين الإسلام منذ آدم عليه السلام، ولقد جاء ذكر لفظ "الطاغوت" في ثمانية مواضع من كتاب الله عز وجل هي:
البقرة (256 - 257)، والنساء (51 - 60 - 76)، والمائدة (60)، والنحل (36)، والزمر (17)..
"فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّـاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى" (البقرة 256)
"وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّـاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَـاتِ" (البقرة 257)
"أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ" (النساء 51)
"يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ" (النساء 60)
"وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ" (النساء 76)
"وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ" (المائدة 60)
"وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ" (النحل 36)
"وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ" (الزمر 17)
في سورة البقرة نلحظ أن الكفر بالطاغوت يسبق الإيمان بالله تعالى " فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّـاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللهِ" وهذا ليس من قبيل الصدفة ولا من قبيل الوضع بغير قصد، فالكفر والإيمان عنصران متضادان لا يجتمعان، ولهما مكان واحد يسكنانه وينطلقان منه، يتربعان فيه ويستحوذان على كل ما يريدانه من خلاله، هذا المكان هو الذي قال عنه الرسول صلى الله عليه وسلم: "ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب" (رواه البزار في مسنده والطبراني في المعجم الصغير والحديث في الصحيحين عن النعمان بن بشير..)

وإن لكل واحد منهما خصائصه، ولكل منهما مرتكزاته ومقوماته وأهدافه ونتائجه وتجلياته وصوره، ففي حقيقة وضعهما لا يجتمعان أبدا، فإما كفر وإما إيمان فإما الطاغوت وإما الله عز وجل، يقول تعالى: "مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ" الأحزاب 4. ولذلك كان لزاما على المرء أن يكفر بالطاغوت أولاً وقبل كل شيء.. أن يزيل أثره من البداية، أن يدفع تمكّنه من أول وهلة، وأن يطرده ولا يبقي عليه، أن يكفره وأن يغطيه وأن يستره من حياته، أن لا يترك له في ذاته مكانا، وأن لا يجعل له عليه سلطانا، أن يحارب جنده ويقاتل وجوده، وأن ينقي قلبه من شوائبه، وأن يصفي نفسه من أدرانه، وأن لا يتمثله في حياته، وأن يمسح من الوجود كل بصماته وأن لا يسمح بأي من لمساته، إنه أول عدو له فليتخذه عدواً.. وبذلك يكون صالحا للنبتة الأخرى التي تجعله طيبا حسنا وتتفرع لكل وجوده فتؤثر فيه، يقول أبو هريرة: "القلب ملك والأعضاء جنوده، فإذا طاب الملك طابت جنوده، وإذا خبث الملك خبثت جنوده."
"فإذا كان القلب صالحاً بما فيه من الإيمان علماً وعملاً قلبياً لزم ضرورة صلاح الجسد بالقول الظاهر والعمل بالإيمان المطلق، كما قال أئمة أهل الحديث: قول وعمل، قول باطن وظاهر، وعمل باطن وظاهر، والظاهر تابع للباطن لازم له، متى صلح الباطن صلح الظاهر، وإذا فسد فسد) (مجموع الفتاوى لابن تيمية 7/ 187.)

أن يكفر بالطاغوت ويدفعه هذا أولاً.. ثم يؤمن بالله ربه ويعتقد في الباري خالقه، ويُخْلِصْ له في سريرته ويمكّن له في قلبه، ويظهر تمكّنه من خلال أعضائه وجوارحه، حتى يستولي الإيمان على كل كبيرة وصغيرة فيه، ويستوي عنده على سوقه، لأنه سيجد المكان خلواً من غيره ليس فيه أي طاغوت يعبد من دونه، سيكون المكان حينها طيبا نقيا صافيا و "إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيباً" (من حديث رواه مسلم والترمذي) سيكون طاردا لكل خبيث وخُبُث وخبائث ليستقبل الطيب ويمكّن له "قل لا يستوي الخبيث ولا الطيب" (المائدة 100)

وإلا كيف سيكون قلب المرء طيبا إذا تمكّن منه الخبيث واستوى فيه الطاغوت وسكنه الكفر؟.. فمن كان يريد الإيمان الحق بالله تعالى وجب عليه في البدء تنقية المجال بإعلان الكفر بالطاغوت وطرد الشريك "فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا" الكهف 110  ولا يمكن أن يكون العمل صالحا إذا لم يكن العامل مخلصا، فالعمل الصالح هو العمل الذي يسطره في الوجود والواقع الإيمان ويقبله من عامله الله الملك الديان، لهذا فرض الله على الناس كل الناس عبادته بل وحصر خلقهم في العبادة، لم يخلقهم لعبادة الطاغوت بل خلقهم لإخلاص العبادة له سبحانه ولذلك يذكرهم جنا وإنسا "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون" الذاريات 56 وبذلك أرسل الرسل لكل الأمم وبعث الأنبياء لكل الأقوام يقول تعالى: "وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ" النحل 36 إن الطاغوت لا يكتفي بوجوده في مرحلة معينة من حياة المرء، ويأبى إلا أن يبقى مستمرا في المطاردة إلى آخر المراحل، فحتى إن طُرِد في البداية ولم يجد له مكانا يستقر فيه يتحكم من خلاله في كل الوظائف ويسيطر منه على كل الأعمال، فإنه يطارد العمل نفسه والإنجاز ذاته والفعل عينه.. فإذا طُرِد شر طردة في أول الأمر "فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّـاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللهِ" فقد يعود بعد تمكنه من العمل وسيطرته على الفعل ودخوله شريكا في الإنجاز وتربصه بالعبادة التي هي المظهر الحقيقي للعملية الأولى والإنجاز الفعلي لثبوت الكفر بالطاغوت وثبات الإيمان بالله، لذلك جاء الأمر "أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ" ففي الأولى كفر ثم إيمان وفي هذه عبادة ثم اجتناب.. حصن في الأولى وتحصين في الثانية، وبين الحصن والتحصين مسيرة حياة لن ينعم فيها الطاغوت بالراحة إلا إذا تمكن من السيطرة على كل المواقع التي يريد أن يتملكها، ومن دخل الحصن صدقا وعدلا فعلا وواقعا فقد تحصن ولن يكون للطاغوت عليه أي سلطان "إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين" (الحجر 42) وإن حاول وحاول لأنه هو في حقيقته لا يمل ولا يكل حتى يأخذه رب العزة والجلال.. ويناور ويطارد في كل كبيرة وصغيرة لا يترك عبادة إلا وتحسسها وتجسسها وعمل على أن تكون من نصيبه وألا يكون لله منها شيء.. ولذلك فإن من استطاع أن يجتنب الطاغوت بعد أن يكفر به وأن يعبد الله وحده وينيب إليه تكون له البشرى من الله رب العباد سبحانه وتعالى "وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ" الزمر 17 اجتنبوه واجتنبوها واجتنبوهم ليس للطاغوت شخصية مستقرة على شكل أو ثابتة على حال، إنها متلونة متقلبة متغيرة بدون ملامح راسخة إنها تلف من كل الجهات وتأتي من كل الأماكن "ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ" (الأعراف 17) هذا هو الطاغوت الذي أمر الله تعالى بالكفر به وبتجنبه لعلمه سبحانه بمقاصده وأهدافه ولمعرفته جل وعلا بمصيره ومآله، فكل من كفر بالله وآمن بالطاغوت سيرى الوجود على غير حقيقته سيعيش في أجواء مظلمة خاصة به، ستلفه الظلمات وتحجب عنه رؤية النور وتبعد عن الأنوار لتأخذه بعيدا في دهاليز الظلم وغياهب العتمة ومن آمن بالطاغوت وكانت هذه سبيله وخُتِمَ عليه وهو مصر على المضي في طريقه فمآله النار وبيس القرار "وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّـاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَـاتِ" فالاختيار يحدد طبيعة القرار..
هذا الداء السعال وهذا المرض العضال الذي يريد أن يعكر على الناس صفو الإيمان بربهم، وأن ينخر عود استقامتهم، ويلبد عليه جو عبادتهم ما هي طبيعته اللغوية وما هي تجلياته الشرعية؟..

الجزء الثاني

يقول ابن فارس: "طغى، الطاء والغين والحرف المعتل أصل صحيح منقاس، وهو مجاوزة الحد في العصيان، يقال: هو طاغٍ، وطغى السيل: إذا جاء بماء كثير، قال الله تعالى: "إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية، يريد -والله أعلم- خروجه عن المقدار، وطغى البحر: هاجت أمواجه..." مقاييس اللغة 3/ 322 مادة طغى.
وقال الفيومي المصباح المنير: "الطاغوت: مشتقة من (طغا)، والطاغوت يذكر ويؤنث، والاسم: (الطغيان)، وهو مجاوزة الحد، وكل شيء جاوز المقدار، والحد في العصيان فهو طاغٍ، وأطغيته جعلته طاغيا، وطغا السيل ارتفع حتى جاوز الحد في الكثرة" (2/ 273)..
وقال ابن الأثير في كتابه "النهاية في غريب الحديث والأثر" (3/ 128): "...فالطواغي: جمع طاغية، وهي ما كانوا يعبدون من الأصنام وغيرها" 
و"الطاغوت: يقع على الواحد والجمع والمذكر والمؤنث، وهي مشتقة من طغى، والطاغوت الشيطان، والكاهن، وكل رأس في الضلالة، وقد يكون واحدا قال تعالى: "يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به" وقد يكون جمعاً قال تعالى: "والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت" وهو مثل الفلك يذكر ويؤنث، قال تعالى: "والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها" والطاغوت يكون من الأصنام، ويكون من الجن والإنس، ويكون من الشياطين، وجمع الطاغوت، طواغيت، والطواغي: جمع طاغية، ويجوز أن يراد بالطواغي: من طغى في الكفر، وجاوز الحد" انظر "لسان العرب لابن منظور (15/ 7).. ويقول ابن منظور أيضا " وأَصلُ وَزْنِ (طاغُوتٍ): (طَغَيُوت) على (فَعَلُوتٍ).ثم قُدِّمَتِ الياءُ قبل الغَينِ؛ مُحافَظَةً على بَقائِها، فَصار: (طَيَغُوت) ووَزْنُهُ (فَلَعُوت). ثم قُلِبَتِ الياءُ أَلِفًا؛ لتَحَرُّكِها وانفتاحِ ما قَبْلَها، فصار: (طاغُوت)" (15/ 9)

إذاً الطاغوت لغة: مشتق من الطغيان، وهو مجاوزة الحد، فكل شيء كيفما كان نوعه أو جنسه أو شكله جاوز الحد والمقدار فهو طاغٍ وطاغوت "إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ" (الحاقة 11)...أي لما كثر الماء إلى الدرجة التي تجاوز فيها كل حدٍّ، إنه الطوفان والطغيان الذي صورت آية أخرى مستواه بحيث تجاوز الجبال الرواسي التي أراد أن يستنجد بها ويأوي إليها ليعصم نفسه من طغيان الماء طاغيةٌ آخرُ هو ابن نوح يقول تعالى: "قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ" (هود 43).
أما في الاصطلاح فالطاغوت يحمل دلالاته اللغوية ويحافظ على بنيتها، ويتكيف مع أوضاعه الجديدة داخل نصوص الشرع، ولذلك تجد اختلافا للعلماء في تحديد معنى الطاغوت وإن اجتمع رأيهم على المعنى اللغوي، وذلك على النحو الآتي:
أن الطاغوت هو الشيطان لتجاوزه الحدّ في العصيان فلقد عصا ربه وهو بين يديه ويعتقد اعتقادا جازما بأنه خالقه ورازقه ومنظره ومع ذلك قال لرب العزة والجلال: "وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا" (الإسراء 61) وبهذا المعنى ورد عن عمر رضي الله عنه: "الجبت: السحر، والطاغوت: الشيطان" كما جاء بمعنى الكاهن لأنه تجاوز الحد في ادعائه المعرفة بما لا يُرى ولا يُحسُّ والتواصل مع ما لا يُعْقَلُ.. فلقد تجاوز الطبيعة البشرية مما جعل غيره يعتقد فيه ما لا يعتقده في سواه حتى أصبح يطاع ويعبد من دون الله.. ورد عن عكرمة رضي الله عنه أنّ: "الجبت بلسان الحبشة: شيطان، والطاغوت: الكاهن" (صحيح البخاري كتاب التفسير) .. 
ومنهم من جمع بين المعنيين أي بين الشيطان والكاهن ليرسم لنا خريطة التفاعل بين اثنين ليصبحا طاغوتين في طاغوت واحد، وكيف سيكون الارتباط بين هذا الطاغوت الثنائي وباقي الناس الذين سيخضعون لحكمه ويدينون برأيه ويتبعون قانونه: "يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ" (النساء 60).. يُرْوى عن جابر رضي الله عنه أن الطاغوت هو الكاهن الذي ينزل عليه الشيطان ويتحاكم إليه الناس في قوله: "كانت الطواغيت التي يتحاكمون إليها: في جهينة واحد، وفي أسلم واحد، وفي كل حي واحد، كهان ينزل عليهم الشياطين" (صحيح البخاري كتاب التفسير).. وقيل إن الطاغوت هو الأوثان والأنداد وكل ما كان يعبد من دون الله.. (انظر تفسير ابن كثير سورة البقرة) ..وجاء في معنى الجبت والطاغوت عند (القرطبي في تفسيره 5/ 248) "وروى ابن وهب عن مالك بن أنس: الطاغوت ما عبد من دون الله. قال: وسمعت من يقول إن الجبت الشيطان؛ ذكره النحاس. وقيل: هما كل معبود من دون الله، أو مطاع في معصية الله؛ وهذا حسن. وأصل الجبت الجبس وهو الذي لا خير فيه، فأبدلت التاء من السين؛ قاله قطرب. وقيل: الجبت إبليس والطاغوت أولياؤه. وقول مالك في هذا الباب حسن؛ يدل عليه قوله تعالى: أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت وقال تعالى: والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها. وروى قطن بن المخارق عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الطرق والطيرة والعيافة من الجبت. الطرق الزجر، والعيافة الخط ؛ خرجه أبو داود في سننه. وقيل: الجبت كل ما حرم الله، الطاغوت كل ما يطغي الإنسان"
ويجمع ابن القيم رحمه الله شتات كل ما قيل ليخرج في تعريفه للطاغوت إلى أنه: "....من تحاكم أو حاكم إلى غير ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فقد حكّم الطاغوت، وتحاكم إليه، فطاغوت كل قوم من يتحاكمون إليه غير الله ورسوله، أو يعبدونه من دون الله، أو يتبعونه على غير بصيرة من الله، أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة لله، فهذه طواغيت العالم، إذا تأملتها، وتأملت أحوال الناس معها، رأيت أكثرهم عدلوا من عبادة الله إلى عبادة الطاغوت، وعن التحاكم إلى الله وإلى الرسول إلى التحاكم إلى الطاغوت، وعن طاعته ومتابعة رسوله إلى طاعة الطاغوت ومتابعته، وهؤلاء لم يسلكوا طريق الناجين الفائزين من هذه الأمة: وهم الصحابة، ومن تبعهم، ولا قصدوا قصدهم، بل خالفوهم في الطريق والقصد معاً.." (إعلام الموقعين عن رب العالمين 1/ 50).. 
ويعتبر الإمام محمد بن عبد الوهاب الطواغيت كثيرين إلا أن لهم رؤوسا خمسة يقول: "والطواغيت كثيرون، ورؤوسهم خمسة: إبليس لعنه الله، ومن عُبد وهو راضٍ، ومن دعا الناس لعبادة نفسه، ومن ادّعى شيئاً من علم الغيب، ومن حكم بغير ما أنزل الله" (ثلاثة الأصول 30)
إن الطاغوت هو كل ما يكون الإيمان به أو عبادته أو طاعته أو اتباع سبيله أو الاقتداء بنهجه أو الخضوع لأوامره أو الخشوع بين يديه أو الخنوع له حتى في غيبته سببا للطغيان وتجاز الحدّ، أو الغلو في الباطل أو الفسوق عن السراط المستقيم، أو الخروج عن الحق المبين من مخلوق يطاع، أو مصنوع يعبد، أو حاكم له يُخْضَع، أو فكر يُقلّد، أو هوى يُتّبَع.. فالله تعالى خلق الخلق لغرض واحد وهدف واحد ووظيفة واحدة في هذه الحياة وهذا الكون، كل المخلوقات تقوم بها كما أمرها خالقها وبالشكل الذي حدده لها وارتضاه لنفسه ويليق بجلاله سبحانه وتعالى، إلاّ الثقلان فلقد هداهما النجدين وبيّن لهما السبيلين وحدد لهما السراطين " وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ" يعني الطريقين: طريق الخير وطريق الشر. بيّنهما الله بما أرسل من الرسل فكان لهما الخيار في الاتباع أو التجاوز.. ولذلك إذا تجاوزا هذه الوظيفة بأي سبب من الأسباب فقد دخلا في الطاغوتية، فكل من تجاوز الحد عن أو في العبادة فقد طغى، يقول تعالى: "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ" (الذاريات 56) فتَجَاوُزُ الحد عن هذا الأمر أي الابتعاد عنه والرغبة عن إتيانه.. أو تجاوز الحد في هذا الأمر والغلو فيه وتنفيذ ما ليس منه، هما معا يعتبران طغياناً.. سواء كان ذلك من داخل نفس المأمور بالعبادة أو من خارج ذاته.. وهذه الوظيفة " إِلَّا لِيَعْبُدُونِ" كانت مقررة منذ بداية تاريخ الجن والإنس على الأرض، منذ أن قال الله تعالى لأبي الجن إبليس وأب الإنس آدم عليه السلام وزوجه: "اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ" (الأعراف 24) و"قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا" وأردف سبحانه وتعالى قائلا بعد ذلك مباشرة: "فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ" (البقرة 38)
فمن البداية إذاً كانت الطريق واضحة بيّنة لأن الذي أوضحها وبيّنها هو صاحبها ومولاها، فهي طريق صراع وعداء لتحقيق أحد الهدفين.. الهدى أو الضلال.. الاتباع أو التكذيب.. الإيمان أو الكفر.. ومن الاختيار ينبثق الجزاء.. فلا شيء إذاً غامض في الطريق التي رسمها الله سبحانه وتعالى، فأوامره ونواهيه أوضح من الشمس في واضحة النهار لكن المأمورين هم الذين يختارون "يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ" (النساء 60) يريدون التحاكم إلى الطاغوت إذاً "يُخْرِجُونَهُم مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَـاتِ" أما الذين لا يريدون هذا النوع من التحاكم واجتنبوه ورفضوه وتركوه "لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ".. إن الله تعالى بيّن وأوضح وشرح وأوفى كي لا تبقى لأحد على الله حجة "رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ" ومن الناس من علم وعمل، ومنهم من علم ولم يعمل، ومنهم من لم يعلم ولم يعمل، ومنهم من لم يعلم وعمل.. والخير في من علم وعمل ولا ريب، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "وأما العلم النافع الذي تحصل به النجاة من النار ويسعد به العباد فلا يحصل إلا باتباع الكتب التي جاءت بها الرسل قال تعالى : " فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى " "ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى" " قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا" "قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى" "وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن " إلخ وقال تعالى: " ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين" فمن ظن أن الهدى والإيمان يحصل بمجرد طريق العلم مع عدم العمل به أو بمجرد العمل والزهد بدون العلم فقد ضل" مجموع فتاوى ابن تيمية 13/ 248
وفي قول جامع إن الطاغوت هو كل ما يُقَدَّمُ أمرُهُ على أمر الله سبحانه في دينه، ونهيه على نهي الله تعالى في شرعه، بأي شكل من الأشكال وبأي طريقة من الطرق، من الوجدان إلى الجنان إلى الجوارح، من المحبة وهي أول خيط العبادة إلى التنفيذ وهو آخر خيط العبادة، وبينهما يجري القصد والنية.. فما كان خالصا لله فقد كان خالصا لله كافرا بالطاغوت مجتنبا إياه مبتعدا عنه متوقيه، وما كان لغير الله فهو له، كافرا بالله مبتعدا عن دينه.. عن أمير المؤمنين أبي حفص عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنما الأعمال بالنيّات، وإنما لكل أمرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه" (رواه البخاري ومسلم في صحيحهما).
وإلى لقاء آخر إن شاء الله تعالى مع:
"الطواغيت أشكال وخصائص"

تحميل ملف "PDF"

0 تعاليق:

إرسال تعليق