class='ads'>
الخميس، أبريل 30

:الجزء الثامن من دراسة "أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء" "ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك"


                                            :الجزء الثامن من الدراسة تحت عنوان 

وضع الامتناع بين "أنْ" و"ألاّ":
----------------------------------------------



يقول تعالى: 
<( قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ )>(ص 75 - 76)

ويقول سبحانه: 
<( قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ )>(الأعراف 12)


الملاحظ أن آية سورة (ص) لا إشكال فيها فمعناها واضح لا غبار عليه، ودلالة تركيبها سهلة بينة، أما آية سورة (الأعراف) فقد اختلف أهل العلم فيها على أقوال، ومن أبرزها ما جاء في "دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب" لمؤلفه الشيخ محمد الأمين الشنقيطي حيث قال: "في هذه الآية إشكال بين قوله:{منعك} مع (لا) النافية لأن المناسب في الظاهر لقوله: {منعك} بحسب ما يسبق إلى ذهن السامع لا ما في نفس الأمر هو حذف (لا) فيقول: "ما منعك أن تسجد" دون "ألا تسجد" وأجيب عن هذا بأجوبة؛ من أقربها هو ما اختاره ابن جرير في تفسيره، وهو أن في الكلام حذفا دل المقام عليه، وعليه فالمعنى: ما منعك من السجود، فأحوجك أن لا تسجد إذ أمرتك. وهذا الذي اختاره ابن جرير قال ابن كثير: "إنه حسن قوي"
ومن أجوبتهم أن (لا) صلة، ويدل له قوله تعالى في سورة (ص): {ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي} الآية، وقد وعدنا فيما مضى أنا إن شاء الله نبين القول بزيادة (لا) مع شواهده العربية في الجمع بين قوله: {لا أقسم بهذا البلد} وبين قوله: {وهذا البلد الأمين}. اهـ.

وقال ابن عاشور في التحرير والتنوير: وما للاستفهام، وهو استفهام ظاهره حقيقي، ومشوب بتوبيخ، والمقصود من الاستفهام إظهار مقصد إبليس للملائكة. ومنعك معناه صدك وكفك عن السجود، فكان مقتضى الظاهر أن يقال: ما منعك أن تسجد؛ لأنه إنما كف عن السجود لا عن نفي السجود، فقد قال تعالى في الآية الأخرى: ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي [ص: 75] ، فلذلك كان ذكر (لا) هنا على خلاف مقتضى الظاهر، فقيل هي مزيدة للتأكيد، ولا تفيد نفيا؛ لأن الحرف المزيد للتأكيد لا يفيد معنى غير التأكيد. و (لا) من جملة الحروف التي يؤكد بها الكلام؛ كما في قوله تعالى: لا أقسم بهذا البلد [البلد: 1]- وقوله- لئلا يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شيء من فضل الله [الحديد: 29]. أي ليعلم أهل الكتاب علما محققا. وقوله تعالى: وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون [الأنبياء: 95]. أي ممنوع أنهم يرجعون منعا محققا، وهذا تأويل الكسائي والفراء والزجاج والزمخشري، وفي توجيه معنى التأكيد إلى الفعل مع كون السجود غير واقع، فلا ينبغي تأكيده خفاء؛ لأن التوكيد تحقيق حصول الفعل المؤكد، فلا ينبغي التعويل على هذا التأويل. وقيل (لا) نافية، ووجودها يؤذن بفعل مقدر دل عليه منعك؛ لأن المانع من شيء يدعو لضده، فكأنه قيل: ما منعك أن تسجد فدعاك إلى أن لا تسجد، فإما أن يكون منعك مستعملا في معنى دعاك، على سبيل المجاز، و (لا) هي قرينة المجاز، وهذا تأويل السكاكي في «المفتاح» في فصل المجاز اللغوي، وقريب منه لعبد الجبار فيما نقله الفخر عنه، وهو أحسن تأويلا، وإما أن يكون قد أريد الفعلان، فذكر أحدهما وحذف الآخر، وأشير إلى المحذوف بمتعلقه الصالح له فيكون من إيجاز الحذف، وهو اختيار الطبري ومن تبعه.

ونحن نعلم أن سورة (ص) قبل سورة (الأعراف) نزولا ولذلك سنأخذ مشهد (ص) انطلاقا من هذا السؤال المفتاح "أستكبرت أم كنت من العالين" أي هل أنت مستكبر؟ والاستكبار محض ادعاء نفسي لما ليس لمدعيه فيه حق، احساس مدعيه بحال ليس هو لها أهلا، واعتقاده  وهو مخطئ أنه كبير وفوق الجميع، وأن غيره أقل منه وأن الكل دونه، ورؤيته نفسَه أفضل من سواه وأنه لا يوجد له مثيل ولا شبيه، وهذا كله مبني على الخيال ولا علاقة له بالواقع.. ولذلك فالاستكبار حالة نفسية مرضية مذمومة تجعل صاحبها يشعر بكونه أرقى من غيره فيصبح بهذه الحال ممقوتا...
"أستكبرت" هل أنت "يا إبليس" هكذا تتخيل نفسك كبيرا وتعيش في ظل هذا الوهم المريب والظن المخيب "أم كنت من العالين" أم أنك لست متوهما ولست متخيلا ولست مريضا، بل أنت"يا إبليس" تنتمي إلى فئة العالين الذين يعيشون حقيقةً على واقع العلو والأفضلية ويوجدون في مراق عالية فهم يحيون هذا العلو ويرتعون فيه ويستشعرونه في وجودهم ولا يتوهمونه أو يتخيلونه بل هم كائنون فيه، في مكانة مرفوعة راقية؟ هل أنت من هؤلاء، تعيش عيشهم وتحيا حياتهم وترتع مراتعهم..؟
إن الاستكبار ادعاء وافتراء على النفس وتعاظم على الغير بدون حق، وحياة في الخيال المرضي استعلاء على الآخر، أما الكينونة من العالين فواقع ملموس ووضع مشهود وحياة ظاهرة.. لذلك فيا إبليس إما أنك مريض نفسيا بحالة تنتابك انطلاقا من مخيلتك وهي حالة الاستكبار، وإما أنك فعلا تعيش ضمن فئة اجتماعية عالية راقية.. وإبليس كان يدرك هذه المعاني تماما لذلك هو لم يختر منهما أي سبيل فلا هو في قرارة نفسه مريض ولا هو في الواقع من فئة العالين..
والله سبحانه وتعالى عندما استجوب إبليس وهو يعلم أمره.. سره ونجواه، حاله ومآله، تفاعله ورده.. كان سبحانه وتعالى به رحيما يناديه بكل رأفة وشفقة يناديه باسمه العلم "يا إبليس" يريد إعطاءه فرصة للتفكير فيما بدر منه، وما قام به، يريد أن يفسح له المجال كي يسوي وضعه، ويضع إباءه، ويرفض تعنّته، ويطرد وساوس نفسه وقياسات عقله وشطط فكره.. فيرد بما يجعله غير ملوم، ويختار الجواب الذي يجعله في حل من عواقب تصرفه الأول.. فـ"يا إبليس" نداء الرقة والرفق بياء القرب، ثم  يأتي سبب النداء"ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي"؟ يسأله عن موضوع قريب وقع في زمن النداء، لا زال غضا طريا، لم يمض عليه من الزمن إلا زمن الإباء زمن الرفض زمن المعصية.. وما كان الرب سبحانه يريد أن يمر هذا الزمن العصيب على إبليس ويُحسب عليه ثم يحاسب من أجله، بل أراد رحمة به أن يرده إلى زمن العزة والمقام الرفيع والمكانة الراقية.. لذلك كان السؤال بهذا الشكل وعلى هذه الطريقة "يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي" هكذا بالتي هي أحسن، وبتركيب لفظي سهل ويسير وبسيط وبمعنى رقيق ولطيف فيه "يٓاْ" و"مٓاْ" و"أَنْ" حركة وسكون، لأن الأمر لا زال سهلا ويسيرا يمكن لإبليس أن يتداركه، ما زال الوضع لم يتعقد بعد.. لا زال موقف إبليس قد يحسب على الدهشة والصدمة، وليس على الرغبة والحرص، بل أكثر من هذا يتيح المولى جل وعلا لإبليس فرصة الاختيار عندما أعطاه احتمالين اثنين ليختار أحدهما ثم يعترف بخطإ اختياره ويبسط أمام ربه اعترافه بذنبه سواء اختار موضوع الاستكبار جوابا أو اختار كونه من العالين ردا، ففي كلتا الحالتين سيكون -إن شاء التوبة والبقاء في الرتبة الرفيعة- متسربلا بالاستغفار مرتديا زي التوبة مكسوا بلباس الطاعة.. لكن يبدو أن إبليس تمكنت منه، من كل أعضائه الدهشةُ وأربكته الصدمة، وشلّه الموقف المهول وأوقفه الأمر، حتى جاءه القول مدويا مرة أخرى تصحبه شدة في المعنى وتضعيف في المبنى وتعقيد في التركيب وغلظة في الألفاظ "ما منعك ألّا تسجد إذ أمرتك"جاء أسلوب هذا التركيب اللغوي هنا يتضمن ملامح الشدة باستعمال "ألا" المضعفة عن طريق إدغام "لا" النافية و"أنْ" المصدرية لتعطي"الاّ" ودخول "لا" النافية على الحرف المصدري "أن" يكون للزيادة في التوكيد، توكيد فعل سابق وهو هنا فعل المنع "ما منعك" وليس لنفيه وقلب معناه، فأداة النفي يزول مفعولها وينصهر في معنى الفعل لأن الأولوية هنا لدلالة الفعل ووظيفته على معنى الحرف وعمله.. والقرينة الدالة على هذا ما جاء في سياق القصة من خلال آية سورة (ص)"ما منعك أن تسجد"، كما أن لا النافية  هذه تضفي على الفعل دلالة التوبيخ والزجر والشدة والغلظة كما جاء في قصة موسى مع أخيه هارون عليهما السلام في المشهد الذي يقول فيه مولانا حكاية عن موسى <(قال يا هارونُ ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعنِ أفعصيتَ أمري)>.. لكن رحمة الله أوسع من رحمة خلقه، فموسى عليه السلام بدأ السؤال بالقوة والغلظة والشدة والتوبيخ والزجر "ما منعك ..... ألا تتبعني".. أما رب العالمين فبدأ بالرحمة والتساهل واللطف واليسر "ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي" ثم ختمها بالشدة والزجر "ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك"..
ثم إن "لا" ليست حرفا زائدا كما يدعي بعضهم لا قيمة له، فالقرآن كلام الله تعالى ولكل حرف فيه دلالة ومعنى وحق في الوجود.. ثم إن أسلوب هذه الآية ظهرت فيه إيحاءات الغضب إذ لم يُنادَ فيه على إبليس بياء القرب ولم يخاطب فيه بالاسم العلم، وعنّت أو بدت فيه ظلال القهر والقوة من خلال التركيب اللفظي "إذ أمرتك"..
 كل هذا جاء على خلاف ما ورد في الآية الأولى التي تفوح بنداء القرب والرقة والسؤال الخفيف والتذكير بفعل الخلق مع إعطاء فرصة اختيار أحد الاحتمالين.. أما الجو الذي جاءت فيه هذه الآية فإنه ينشر على هذا المشهد الرقيق هذه الظلال نفسها وتلك الإيحاءات ذاتها<(وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين (من صلصال من حمإ مسنون) فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين)> هنا إخبار مفعم بدلالات الربوبية، وحديث مشرب بمعاني الرقة والحنية، وكلام يحوطه سرد أحداث التطورات الخَلقية، ووصف يُـعْـنى بالمكونات البشرية الجسدية والروحية.. وتوصيف وإعلان بما يجب أن تصير عليه الأمور الختامية.. على عكس ما عليه جو الآية الأخرى الذي نجد فيه <(وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم )> نون العظمة والقدرة والجلال تملأ أركان التركيب اللفظي وتسيطر على تلابيب الخطاب المشهدي، فجعلت القيل قصيرا والتركيب مباشرا والأمر قويا.. 
لكن إبليس لم يختر أيا من ذانيك الاحتمالين ولم يجب بأي منهما مرفقا إياه بالتوبة والندم، ولكنه ذهب مذهبا آخر وسلك فجا سحيقا أكد به إباءه عندما قال "أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين" فكأنه يقول أنا لست مستكبرا ولست من العالين ولكنني خير وأفضل من هذا المخلوق، فأنا خلقتني وسويتني من نار وهو خلقته وسويته من طين..
لمن يقول إبليس هذا الكلام؟ وعلى من يرد بهذا الجواب؟ أيقول هذا لمن يعلمه؟ أهذا هو الرد الذي يليق به أمام من خلقه وخلق آدم وخلق الخلق قبلهما كله، وهو أول من يعرف ما وقع ويعترف بما حصل؟.. فهو سبحانه وتعالى منذ بداية السؤال يقول له: "لما خلقتُ بيدي".. يُذكّره سبحانه بشكل غير مباشر ولكنه واضح وضوح الكلمات المستعملة في هذا التركيب اللفظي، بكونه الخالق وهو أيضا الآمر، ويوحي ضمن الكلام بما يجب فعله وقوله لمن خلق.. فإذا كان هو الخالق المسوي النافخ سبحانه وهو الآمر بالطاعة والامتثال بالسجود فحق الطاعة له واجب ومفروض.. وإذا وقع المخلوق في براثن المعصية وسقط المأمور في كهف الإباء فحق التوبة له وارد ومحفوظ.. 
ثم يليّن الله سبحانه السؤال في مشهد سورة الحجر ويضفي عليه نسمات رحمته بأسلوب آخر، لعل إبليس يعي وضعه المتأزم ويرحم نفسه المتورطة فيقلع عن إبائه وتعنته فإذا كنت "يا إبليس.." -ويعود السؤال من جديد إلى النداء بياء القرب والخطاب بالاسم العلم- لست من المستكبرين ولست من ضمن العالين، وأنت تريد فقط الخيرية والأفضلية الخلقية فلماذا لا تريد أن تكون مع الساجدين؟ لماذا لا تريد أن تحافظ على هذه المعية؟ أوَ لا تريد أن تبقى في عليين؟ أوَ لا تحب أن تبقى في ركب الخاشعين المطيعين؟..<(يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ )> إنها منتهى الرأفة والرحمة: "يا إبليس"، ثم إنها منتهى الشفقة والحنان "ما لك".. ولكن إبليس لم يكن لهذه الرحمة من المدركين، ولم يكن لذلك العطف من المستوعبين.. تجلف بصره وتبلد تفكيره، وعميت بصيرته وضل عقله، وهاج عليه أصل خلقه، وماج عليه لهيب ناريته، لقد غلبت عليه شقوته وكان من الظالمين، ومن ثمة كانت إجابته الأخيرة غير قابلة للاستئناف ولا رجعة فيها، لأنها تصور قمة الاستكبار المحاط بالإباء، استكبار كان قبله امتناع وإباء وكان بعده تعنت وإباء.. <(قَالَ آسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا)>و<(لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ)>
لماذا غلق هذا المخلوق عل نفسه أبواب الرجوع إلى الله وأوصد على نفسه أبواب الأوبة إلى رحاب خالقه، لماذا سد هذا العبد المأمور في وجهه أبواب الرحمة والمغفرة والتوبة بذلك الموقف وتلك الإجابات التي اعتبرها الله تعالى استكبارا، وسماه من أجلها مستكبرا ثم وصمه بكونه من الكافرين؟ فلو أن هذا المخلوق الممتحن اختار أحد الاحتمالين لنسخ إباءه وقتل تعنته، وتفوق على وسوسات نفسه، فلو أنه قال مثلا "أنا من المستكبرين" لقيل له ولماذا استكبرت؟ ولو قال: "لم أسجد لأنني من العالين" لقيل له لا.. أنت لست من العالين، وتكون له بذلك فترة للتفكير، وإعادة النظر.. وهكذا سيعطي لنفسه فرصة ثالثة يعيد فيها حساباته وقد يهيء فيها ذاته للتوبة إلى الله تعالى والرجوع إلى جادة الصواب.. ولكنه هو الذي غلّق الأبواب منذ الوهلة الأولى، أي ابتداء من الكلمة الأولى "اسجدوا".. لقد أوصدها منذ اللحظة الأولى، بل من الزمن الذي صدحت فيه كلمة الرب جل جلاله في الكون جميعه مخاطبا الملأ الأعلى وقد كان إبليس معهم، كان من بينهم، لم يكن منهم ولا من طبيعتهم ولم يكن على شاكلتهم لا خَلقا ولا خُلقا، إذاً هو نفسه أحكم الإغلاق بسلوكه منذ الكلمات الأولى "إني خالق بشرا من طين فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين"،كان عندها إبليس فعلا واهما بإبائه، مستعليا باستكباره، متخيلا في نفسه ما ليس فيه، مدعيا لذاته الخيرية والأفضلية وهو يعلم أنه ليس كذلك... 
إن إبليس بفهمه المعوج للوضعية التي كان عليها، وبتلبيسه على نفسه بالمكانة التي كان يظن أنه ينالها، وإنه بجعله لذاته -واهما- قطب الأفضلية والخيرية نال ما نال وهو مستحق.. لقد نسي أنه في مقام العبودية، وأنه يترنح بين مدارج الطاعة ومدارك المعصية، وأن تعامله مع ذاك الأمر الرباني سيكون إما له وإما عليه، وبه سيتحدد مصيره على المدارج أو في المدارك.. لقد أعماه شغفه بنفسه وحبه لذاته عن إدراك حقيقة الأمر بالسجود، لقد اهتم بفعل السجود ولم يراع الأمر بالسجود، لقد نظر إلى المسجود له عدوا له، وتجاهل الآمر بالسجود وهو خالقه.. لم يفطن إبليس لقول الله له "ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي"، فهذا المسجود له"خلقت بيدي" إنه المخلوق آدم ليس له من الأمر شيء، هو نفسه كان من أمر الله تعالى قال له كن فكان، ولو لم يقل له كن ما كان له أن يكون، فسبحان من خلقه من تراب ثم قال له كن<(إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ )> (آل عمران: 59) إنه آدم أيضا مثله كمثل إبليس نفسه مخلوق، إن آدم لم يأمر بالسجود ولم يتعاظم على الساجد، بل كان الأمر بيد خالقه ومسويه والنافخ فيه من روحه قبل أن يوجده، هو الذي خلق وهو الذي أكرم وأنعم وهو الذي أوجب الطاعة لمـّا أمر. إن كل المساحات في تلك الآفاق الرحبة الشاسعة يتحرك فيها أمر الله تعالى وقدره، كل الأماكن ينتشر فيها عبق الحضور الإلٰهي، كل الزمن يزخر بنسائم الوجود الرباني، فكما أن الله عز وجل قد أكرم بدايةً حتى قبل خلق آدم أكرم سبحانه إبليس بالوجود مع الملائكة فقد أكرم سبحانه بعد ذلك آدم بالأمر بالسجود له، ليس لأفضليته وليس لخيريته ولا لطينيته، فلا أفضلية في ذاك المقام لأحد على أحد، إنه مقام العبودية في الحضرة الإلٰهية الكل سواسية، إبليس هو أبو الجن مخلوق وآدم أبو الإنس مخلوق وعلى الجميع أن يكونوا طائعين، لأن الأصل في خلقهم والغاية من إيجادهم أولا وقبل كل شيء محصور في قضية أساس ووحيدة هي العبودية الكاملة والطاعة الشاملة والامتثال الصادق لأوامر الملك الديان الذي يقول مبينا ذلك في محكم التنزيل: <(وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون)> فتكريم إبليس بوجوده بين الملائكة وتكريم آدم بسجود إبليس والملائكة.. وكل من التكريمين كان بإرادة الله تعالى وأمره وقضائه، والله تعالى إذا أمر وجبت طاعته..

 فكما أن إبليس لم يقف ضد الخلق والتسوية ونفخ الروح في آدم عليه السلام، فلماذا يقف ضد السجود؟ لماذا يأباه ولا يريد القيام به؟ أهذا خالق وذاك خالق؟ أليس الخالق هو الآمر؟ أليس الذي قال"إني خالق بشرا من طين" هو الذي قال "فقعوا له ساجدين"؟ أم أن إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين -وهذا هو الحق- لأنه اختار بكامل إرادته وحريته وبتمام وعيه، وبدون أي إكراه سلطوي.. أو دافع خارجي.. اختار الفسوق عن أمر ربه والخروج عن طاعة سيده والتنكر لفضل مولاه عليه كما أخبر بذلك العليم الخبير سبحانه في قوله :<(وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ )> (الكهف: 50).. فالامتناع عن فعل الشيء، وعدم القيام به وقد صدر عن جهة عليا إما أن يكون بعلة محددة، وإما أن يكون بمانع معين، بمعنى أن يكون هذا الامتناع إما باختيار داخلي ووسوسة باطنية أي بعلة نفسية، أو بإكراه جسدي، وقهر غيري، أو بإيعاز وتأثير من جهة معينة، أي بدافع خارجي أو قل بمانع مادي مؤثر..  
وبالنسبة لإبليس عندما سئل عن علة امتناعه وعن المانع من تنفيذ أمر ربه نلحظ من خلال إجاباته أن:
1* علة المنع (الجانب النفسي) من السجود كانت هي التكبر..
2* المانع (الجانب الخارجي) من السجود كان أيضا هو التكبر.. 
فكانت بذلك العلة والمانع في معصية إبليس شيئا واحدا هو الاستكبار والتعنت، بخلاف ما سنلحظه عند آدم عليه السلام الذي كان:
1* علة المنع من الطاعة هي النسيان : وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً [طه:115]
2* المانع من الطاعة هو الشيطان بغوايته : فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَى [طه:120]
وهكذا اختلفت العلة مع المانع في معصية آدم عليه السلام، وبهذا نقول إن إبليس كان عازما على المعصية :<(إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى أَن يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ)> (الحجر:31) أما آدم فلم يكن لديه أي عزم على المعصية : وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً [طه:115]

نخلص إلى القول بأن الله تعالى أقام الحجة على إبليس عندما سأله من الناحية النفسية (أَسْتَكْبَرْتَ) هذا وضع داخلي، ومن الناحية الغيرية (أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ) وهذا وضع خارجي قائلا:<(يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ)>ثم قائلا: <(مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ)>  وقائلا <(يَاإِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ)> وكانت إجابات إبليس <(أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ)> ذكرت مرتين، <(قَالَ آسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا)><(قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ)> كلها تدل على أن عدم سجوده كان نابعا من داخله، كانت العلة في رفضه والمانع من سجوده.. كانا معا نفسيين داخليين مختارين وليسا مفروضين،فليس رغماً عنه امتنع أو فوق طاقته رفض أو بإيعاز من غيره أبى أو بتزيين من خارج ذاته كما سيفعل هو بآدم عليه السلام فيما بعد أو أن أحدا منعه وحال بينه وبين تنفيذ الأمر الرباني كالملائكة مثلا على اعتبار أنهم مثله والشريك الوحيد في الاستجابة للأمر الإلهي.. 

لقد واجه ابليس وضعه ممتحنا ومختبرا وإن شئت فقل مفتونا، لقد واجه وضعه بمزيد من التعقيد حين اوغل في الفسوق والفجور والتعنت والاستكبار والكفر والتطاول والعصيان والأنانية والتبجح في القول بدل التواضع والخضوع والخنوع والخشوع والخشية وتنفيذ الامر امر من خلقه من نار كما يعترف هو نفسه فهو لم ينف كونه مخلوقا لله تعالى، كما انه لم يثبت غير طبيعته الخَلْقِية ونسي أو تناسى بل قل أعماه إبائه واستكباره عن الطبيعة الخُلُقية التي تقتضي منه الاعتراف بفضل الله عليه إذ خلقه وصوره وسواه من مارج من نار بعد أن لم يكن شيئا يذكر، وتقتضي أيضا شكره على نعمه التي أنعم بها عليه إذ جعله في ذلك المكان المنور وفي تلك المكانة العلية والمنزلة الرفيعة في تلك الحضرة الربانية وذلك المقام الإلهي.. ثم بعد هذا وذاك عندما أبى الطاعة، رحمه الله بالتوبة ولكنه استكبر، فكان لزاما أن ينال جزاء عمله.
 فكانت النتيجة النهائية في الاختبارين معا ما مجموع نقطه صفر من مائة (100/00) وبذلك فان هذه النتيجة المخزية ستجلي مآله ومصيره وحقيقة عقباه وما سيؤول اليه أمره في آخر المطاف من خلال الآيات الكريمة التالية:
({ .. فاهبط منها فما يكون لك ان تتكبر فيها فاخرج انك من الصاغرين})(الأعراف١٣)
({.. فاخرج منها فإنك رجيم})(ص٧٨)
({.. فاخرج منها فإنك رجيم })(الحجر٣٥)
هذه هي الآيات المناسبة لهذا المشهد، وما جاء بعدها له مقام آخر سنقف عليه في المشاهد المناسبة لذلك إن شاء الله تعالى.. 
لقد كان هذا الجزاء من جنس ذاك العمل، فبما أن إبليس أبى السجود وعصى أمر الله، وهو الذي كان في مكان عال سامق في الملإ الأعلى حيث سيتم خلق آدم عليه السلام، وفي مكانة راقية وحضوة مرموقة مع الملائكة ذلك المخلوق النوراني الذي لم يخالف أمر ربه سبحانه لا في الأولى ولا في الثانية، فكان إباء إبليس واستكباره ومحاجته ومفاضلته وقياسه الفاسد سببا في الجناية على نفسه إذ أخرج ذاته بسلوكه المشين من بين الملائكة وأهبطها بعناده من تلك المكانة التي كان يتبوءها وتلك المنزلة التي كان يتربع فيها، اختار لنفسه بتعنته المهين واستكباره المشين في مكان وفي منزلة لا يجوز فيهما الإباء والاستكبار أبدا.. لقد اختار إبليس المآل الذي يليق به قبل أن يحكم عليه ربه جل جلاله.. وهكذا جاءت أوامر الله تعالى بالهبوط من مكان وجوده بين الملائكة، والخروج من منزلهم ومكانتهم، مع الصغار والذلة والحقارة والرجم واللعنة والذم والدحر وهو الجزاء الذي انبثق من طبيعة العمل..

ولنا موعد بإذن الله تعالى مع:


آدم عليه السلام من المعصية إلى التوبة:

--------------------------------------------------------------

0 تعاليق:

إرسال تعليق