على سبيل التمهيد:
بدء:
في مسيرة الإسلام الطويلة وهو يشق طريقه في البناء الحضاري
والتعمير المدني، وفي تاريخ المسلمين العريق وهم ينشرون مبادئ وأسس هذا
البناء وركائز ومحفزات ذلك التعمير فكرا وعلما وثقافة وسلوكا .. أثيرت – ولا
زالت - كثير من الأسئلة المختلفة، وطرحت مجموعة من القضايا المتباينة، وعرضت
على أنظار وواقع المسلمين عدة مشكلات وتحديات سواء على المستوى الفكري أو
العلمي أو الأدبي أو الثقافي أو المعرفي أو المنهجي، وإن شئت فقل على المستوى
الحضاري ككل، فلقد كان هناك تحد حضاري استطاع المسلمون أن يستوعبوه وأن يحتووه
دون أن يترك خدوشا كبيرة في حياتهم .. وتراكمت كل تلك المشكلات والتحديات عبر صيرورة
الزمان وسيرورته وتداول الأيام وتواليها وتعاقب الأجيال وتقادمها، فمنها ما قضى
نحبه وانتهى أمره وأصبح من الإرث الثقافي (المؤرشف)، ومنها ما ينتظر لا لكونه استعصى
على الأفهام أو لم يجد له مقيما –حاشاهم سلف هذه الأمة المجيدة، ولكن لكونه يخضع
لقاعدة التجديد حسب تجدد الزمان وإعادة الصياغة حسب تطور الإنسان.. ثم جدت أمور
هي تخضع للمعالجة في كل حين..
وجاء هذا العصر بكل رزئه ليحيي في الأذهان، ويوقظ في العقول، ويروج في الأنفس والمجتمعات، ويشيع في الفكر والفهم، ويرسخ في الثقافة والمعرفة، بكل ما أتيح له من وسائل النشر والإعلام والإعلان، بعضا من تلك المشكلات القديمة – إما تلك التي قضت نحبها وأكل عليها الدهر وما شرب، وإما تلك التي تنتظر تجديد النظر فيها- في أزياء جديدة وأشكال حديثة، وطروحات معاصرة، فلقد تنولت بأشكال مختلفة ومن طرف مهتمين متباينين انتماء وفكراومنهجا، فمنهم العربي ومنهم المستعرب، ومنهم الغربي ومنهم المستغرب، ومنهم المستشرق، ومنهم اليميني ومنهم اليساري، ومنهم القومي ومنهم الوحدوي، ومنهم المتعصب ومنهم المتساهل، وهلم جرا من المنهم حتى الذين لا إلى هؤلاء ولا هؤلاء مدبدبين بين ذلك.. كل هؤلاء وغيرهم يمثلون أقلاما تعاملت مع مشاكل عديدة ومختلفة علمية وأدبية وثقافية وفكرية ذات أصول قديمة نبتت في التاريح القديم والحديث، تناولوها بعقليات حديثة لا لتجيب عن الأسئلة العالقة، أو تقوم بعملية تحديث للإجابات الحاصلة، أو تحيل على المصادر الموثوقة أو تناقش الأفكار المطروحة لتصوغها صياغة أصيلة وجدية ومعقولة، ولكن للأسف الشديد عمدت كثير من تلك الأقلام إلى إثارة تلك المشكلات فقطلتقرّ بها وفيها الأباطيل المنهجية، وتعيد من جديد إلى أرض الواقع الأخطاء التاريخية التي مضت، بله إنها لتقدم ما هو سلبي في زي مزركش يبدو معها كأنه إيجابي، فيختلط الباطل بالحق، والحابل بالنابل، ويلتبس الأمر على المتلقي، ومن ثمة تصاغ المشكلات على غير الهدي الذي يجب أن تسير عليه، مما قد يؤثر على أصول وقواعد أخرى تنتمي إلى المنظومة نفسها التي انبثقت عنها تلك الأسئلة في الأصل الأول، ولربما تحدث –وقد أحدثت- ربكة ليست فكرية فقط بله أيضا عقيدية وسلوكية كما أحدثتها في عصور ولت وأزمنة انقرضت..
ولقد حاولت ثلة من المفكرين الإسلاميين الذين تشربوا الرؤية الإسلامية واعتنقوها واعتقدوها وجدانا وسلوكا ومنهج حياة، حاولوا عبر مراحل التاريخ المعاصر خوض غمار تلك المواضيع المثيرة والمثارة، وفتح أبواب ومنافذ مشكلاتها، وسبر أغوارها والتعاطي معها بشكل مختلف عما روج له كثير ممن ذكرنا مشاربهم سلفا..
ولما كان الاختلاف في المنطلقات والمبادئ والمرتكزات والمدخلات قائما بين هذه الثلة وتلك الفئات..نتج عنه بطبيعة الحال اختلاف في التحليل والنتائج والمخرجات.. وهكذا حاولت هذه الثلة من الإسلاميين لملمة المشكلات واقتراح ما يناسبها من حلول في إطار المبادئ والخصائص والمقومات والمرتكزات التي تنتمي إليها وتصدر عنها في جملة حياتها.. فكان الإسلام هو المنطلق على اعتبار أن القضايا المطروحة للنقاش في أغلبها الأعم قضايا ذات جذور إسلامية سواء كانت قديمة أو حديثة..
وهكذا وبعد أن بسط المفكرون ذوو المشارب الفكرية المختلفة والمتضاربة أيديهم وأقلامهم وألسنتهم ووسائل تواصلهم وإعلامهم، على بعض تلك المشكلات أو القضايا الإسلامية، ونفخوا فيها وقدموها على الشكل الذي يريدونه هم حسب منطلقاتهم وقناعاتهم الشخصية والفكرية والثقافية أو المعرفية، بله وحسب إيديولوجيتهم.. بين محرف ومهاجم وناقم ومستأنس ومتعاطف، كل حسب قربه أو بعده عن التصور الإسلامي الذي يناقشون من داخله أو من خارجه مشكلاته.. بعد أن بسط هؤلاء هيمنتهم الفكرية والثقافية في لحظات تاريخية معينة أخذت العقل الإسلامي فيها سنة من النوم.. أعقبتها لحظات أخرى كانت اليقظة أسمى تباشيرها، فتصدت أقلام أخرى كردة فعل طبيعية - في البداية - لما آلت إليه الأمور في مناقشة تلك المشكلات.. فاتخذت لها مجموعة من الاستراتيجيات منها ما وقف عند المسار التاريخي للمشكلة وكيف نشأت وكيف تم التعاطي معها وما هي النتائج التي انتهت إليها.. ومنها ما وقف عند رصد خلفيات من أثاروها قديما وحديثا، خلفياتهم العقيدية والفكرية وحتى (الإيديولوجية).. وأثبتوا مقاصدهم من إثارتها بالشكل الذي أرادوه وفي الوقت الذي حددوه.. وبالرؤية المخالفة لطبيعتها كمشكلات نبتت في تربة معينة.. ومنها (أي تلك الاستراتيجيات) ما عمد إلى تفكيك المخلفات السلبية وكذا الآثار الجانبية سواء منها العقيدية أو السلوكية أو الفكرية أو النفسية أو الاجتماعية أو غيرها.. التي قد تحدث نتيجة التناول المغرض والتعاطي المشبوه والتحليل المقلوب.. ومنها ما حاول بسط المشكلات في ذاتها ومن جميع جوانبها ثم اقتراح ما يراه فيها مناسبا وتقديمه بأسلوب حضاري معاصر جديد يتماشى ومعطيات اللحظة الراهنة .. وكانت كل هذه الاستراتيجيات تنطلق دائما من المرجعية الإسلامية التي لم تحد عنها قيد أنملة ..
وهكذا تكاثفت الجهود الإسلامية وتواطأت الأقلام الملتزمة وتضافرت العوامل الناهضة المنضبطة لتكون في الأخير نظرة معينة للكثير من القضايا والمشكلات المطروحة على الساحات الفكرية والثقافية والسياسية والاقتصادية والعلمية والتدبيرية والتسييرية والسلوكية..إلخ. كل من باب معرفته، ومن وجهة نظره، ومما بلغ إليه علمه، وانطلاقا من تخصصه، واعتمادا على ما يتقنه ويحسنه ويتفنن فيه بمرجعيته الأصيلة، وذلك على قاعدة ما ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم: "أن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه"(1)، وعلى قاعدة قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء"(2)، فتجد بذلك في الاقتصاد أهل الاقتصاد والتدبير المؤسساتي والتسيير المالي، وفي القانون أهل الشريعة والفقه والقانون، وفي العلوم أهلها ومن يتقنها في جميع الشعب والفروع وعلى كل المستويات.. وكذا الفكر والثقافة والفن والأدب والحضارة والتاريخ.. كل حسب تخصصه وإتقانه واجتهاده..
وإنه لمن جملة القضايا والمشكلات التي فجرت جدلا طويلا وكلاما ساخنا منذ زمن قديم ثم تقلبت في بطون التاريخ وسحبتها الأجيال كل من زاويته، إلى أن قدر لها أن يبزغ فجرها من جديد مع هموم هذا العصر الفكرية والثقافية والأدبية والعلمية، فأسالت مداد الأقلام، وكانت وراء كثير من المناقشات والتحليلات، وأثارت فضول الباحثين، وأرقت بعض الدارسين، وتسببت في جو من الجدال المحتدم، والتراشق الأدبي غير المتزن، فعقدت من أجلها الندوات، وخصصت لها الأسفار والمجلدات والأعداد من الملاحق والمجلات، وكتبت حولها الأبحاث الأكاديمية والدراسات الجامعية والمقالات الأدبية.. وبرزت هذه القضية تأصيلا لنهضة أدبية جديدة يحمل شعارها شباب متحمس.. إنها قضية التي سميت أو تاخذ لها غطاء دعي:*الإسلام والشعر* فكان ما هو مشهور من أمر هذا الموضوع عند النقاد والأدباء وما هو معروف لدى الخاص والعام.. إنه كما يقول الدكتور إدريس الناقوري*حديث ذو تاريخ له رجع بعيد، فهو من الموضوعات الأدبية القديمة التي كثر فيها الكلام وطال حولها الجدل حتى ليمكن القول إنها تحولت إلى قضية فكرية وإشكالية معقدة شغلت الباحثين والمختصين في الدراسات الإسلامية والأدبية على السواء *(3) وإذا كان الأمر كذلك فلماذا نقحم أنفسنا في دروب هذا الموضوع ذي الإشكالية المعقدة ؟ ما هي الأسباب وما هي الدوافع والدواعي إلى الكتابة فيه، والخوض في غماره، والغوص في بحاره، وتجشم مشاقه ؟..
وجاء هذا العصر بكل رزئه ليحيي في الأذهان، ويوقظ في العقول، ويروج في الأنفس والمجتمعات، ويشيع في الفكر والفهم، ويرسخ في الثقافة والمعرفة، بكل ما أتيح له من وسائل النشر والإعلام والإعلان، بعضا من تلك المشكلات القديمة – إما تلك التي قضت نحبها وأكل عليها الدهر وما شرب، وإما تلك التي تنتظر تجديد النظر فيها- في أزياء جديدة وأشكال حديثة، وطروحات معاصرة، فلقد تنولت بأشكال مختلفة ومن طرف مهتمين متباينين انتماء وفكراومنهجا، فمنهم العربي ومنهم المستعرب، ومنهم الغربي ومنهم المستغرب، ومنهم المستشرق، ومنهم اليميني ومنهم اليساري، ومنهم القومي ومنهم الوحدوي، ومنهم المتعصب ومنهم المتساهل، وهلم جرا من المنهم حتى الذين لا إلى هؤلاء ولا هؤلاء مدبدبين بين ذلك.. كل هؤلاء وغيرهم يمثلون أقلاما تعاملت مع مشاكل عديدة ومختلفة علمية وأدبية وثقافية وفكرية ذات أصول قديمة نبتت في التاريح القديم والحديث، تناولوها بعقليات حديثة لا لتجيب عن الأسئلة العالقة، أو تقوم بعملية تحديث للإجابات الحاصلة، أو تحيل على المصادر الموثوقة أو تناقش الأفكار المطروحة لتصوغها صياغة أصيلة وجدية ومعقولة، ولكن للأسف الشديد عمدت كثير من تلك الأقلام إلى إثارة تلك المشكلات فقطلتقرّ بها وفيها الأباطيل المنهجية، وتعيد من جديد إلى أرض الواقع الأخطاء التاريخية التي مضت، بله إنها لتقدم ما هو سلبي في زي مزركش يبدو معها كأنه إيجابي، فيختلط الباطل بالحق، والحابل بالنابل، ويلتبس الأمر على المتلقي، ومن ثمة تصاغ المشكلات على غير الهدي الذي يجب أن تسير عليه، مما قد يؤثر على أصول وقواعد أخرى تنتمي إلى المنظومة نفسها التي انبثقت عنها تلك الأسئلة في الأصل الأول، ولربما تحدث –وقد أحدثت- ربكة ليست فكرية فقط بله أيضا عقيدية وسلوكية كما أحدثتها في عصور ولت وأزمنة انقرضت..
ولقد حاولت ثلة من المفكرين الإسلاميين الذين تشربوا الرؤية الإسلامية واعتنقوها واعتقدوها وجدانا وسلوكا ومنهج حياة، حاولوا عبر مراحل التاريخ المعاصر خوض غمار تلك المواضيع المثيرة والمثارة، وفتح أبواب ومنافذ مشكلاتها، وسبر أغوارها والتعاطي معها بشكل مختلف عما روج له كثير ممن ذكرنا مشاربهم سلفا..
ولما كان الاختلاف في المنطلقات والمبادئ والمرتكزات والمدخلات قائما بين هذه الثلة وتلك الفئات..نتج عنه بطبيعة الحال اختلاف في التحليل والنتائج والمخرجات.. وهكذا حاولت هذه الثلة من الإسلاميين لملمة المشكلات واقتراح ما يناسبها من حلول في إطار المبادئ والخصائص والمقومات والمرتكزات التي تنتمي إليها وتصدر عنها في جملة حياتها.. فكان الإسلام هو المنطلق على اعتبار أن القضايا المطروحة للنقاش في أغلبها الأعم قضايا ذات جذور إسلامية سواء كانت قديمة أو حديثة..
وهكذا وبعد أن بسط المفكرون ذوو المشارب الفكرية المختلفة والمتضاربة أيديهم وأقلامهم وألسنتهم ووسائل تواصلهم وإعلامهم، على بعض تلك المشكلات أو القضايا الإسلامية، ونفخوا فيها وقدموها على الشكل الذي يريدونه هم حسب منطلقاتهم وقناعاتهم الشخصية والفكرية والثقافية أو المعرفية، بله وحسب إيديولوجيتهم.. بين محرف ومهاجم وناقم ومستأنس ومتعاطف، كل حسب قربه أو بعده عن التصور الإسلامي الذي يناقشون من داخله أو من خارجه مشكلاته.. بعد أن بسط هؤلاء هيمنتهم الفكرية والثقافية في لحظات تاريخية معينة أخذت العقل الإسلامي فيها سنة من النوم.. أعقبتها لحظات أخرى كانت اليقظة أسمى تباشيرها، فتصدت أقلام أخرى كردة فعل طبيعية - في البداية - لما آلت إليه الأمور في مناقشة تلك المشكلات.. فاتخذت لها مجموعة من الاستراتيجيات منها ما وقف عند المسار التاريخي للمشكلة وكيف نشأت وكيف تم التعاطي معها وما هي النتائج التي انتهت إليها.. ومنها ما وقف عند رصد خلفيات من أثاروها قديما وحديثا، خلفياتهم العقيدية والفكرية وحتى (الإيديولوجية).. وأثبتوا مقاصدهم من إثارتها بالشكل الذي أرادوه وفي الوقت الذي حددوه.. وبالرؤية المخالفة لطبيعتها كمشكلات نبتت في تربة معينة.. ومنها (أي تلك الاستراتيجيات) ما عمد إلى تفكيك المخلفات السلبية وكذا الآثار الجانبية سواء منها العقيدية أو السلوكية أو الفكرية أو النفسية أو الاجتماعية أو غيرها.. التي قد تحدث نتيجة التناول المغرض والتعاطي المشبوه والتحليل المقلوب.. ومنها ما حاول بسط المشكلات في ذاتها ومن جميع جوانبها ثم اقتراح ما يراه فيها مناسبا وتقديمه بأسلوب حضاري معاصر جديد يتماشى ومعطيات اللحظة الراهنة .. وكانت كل هذه الاستراتيجيات تنطلق دائما من المرجعية الإسلامية التي لم تحد عنها قيد أنملة ..
وهكذا تكاثفت الجهود الإسلامية وتواطأت الأقلام الملتزمة وتضافرت العوامل الناهضة المنضبطة لتكون في الأخير نظرة معينة للكثير من القضايا والمشكلات المطروحة على الساحات الفكرية والثقافية والسياسية والاقتصادية والعلمية والتدبيرية والتسييرية والسلوكية..إلخ. كل من باب معرفته، ومن وجهة نظره، ومما بلغ إليه علمه، وانطلاقا من تخصصه، واعتمادا على ما يتقنه ويحسنه ويتفنن فيه بمرجعيته الأصيلة، وذلك على قاعدة ما ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم: "أن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه"(1)، وعلى قاعدة قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء"(2)، فتجد بذلك في الاقتصاد أهل الاقتصاد والتدبير المؤسساتي والتسيير المالي، وفي القانون أهل الشريعة والفقه والقانون، وفي العلوم أهلها ومن يتقنها في جميع الشعب والفروع وعلى كل المستويات.. وكذا الفكر والثقافة والفن والأدب والحضارة والتاريخ.. كل حسب تخصصه وإتقانه واجتهاده..
وإنه لمن جملة القضايا والمشكلات التي فجرت جدلا طويلا وكلاما ساخنا منذ زمن قديم ثم تقلبت في بطون التاريخ وسحبتها الأجيال كل من زاويته، إلى أن قدر لها أن يبزغ فجرها من جديد مع هموم هذا العصر الفكرية والثقافية والأدبية والعلمية، فأسالت مداد الأقلام، وكانت وراء كثير من المناقشات والتحليلات، وأثارت فضول الباحثين، وأرقت بعض الدارسين، وتسببت في جو من الجدال المحتدم، والتراشق الأدبي غير المتزن، فعقدت من أجلها الندوات، وخصصت لها الأسفار والمجلدات والأعداد من الملاحق والمجلات، وكتبت حولها الأبحاث الأكاديمية والدراسات الجامعية والمقالات الأدبية.. وبرزت هذه القضية تأصيلا لنهضة أدبية جديدة يحمل شعارها شباب متحمس.. إنها قضية التي سميت أو تاخذ لها غطاء دعي:*الإسلام والشعر* فكان ما هو مشهور من أمر هذا الموضوع عند النقاد والأدباء وما هو معروف لدى الخاص والعام.. إنه كما يقول الدكتور إدريس الناقوري*حديث ذو تاريخ له رجع بعيد، فهو من الموضوعات الأدبية القديمة التي كثر فيها الكلام وطال حولها الجدل حتى ليمكن القول إنها تحولت إلى قضية فكرية وإشكالية معقدة شغلت الباحثين والمختصين في الدراسات الإسلامية والأدبية على السواء *(3) وإذا كان الأمر كذلك فلماذا نقحم أنفسنا في دروب هذا الموضوع ذي الإشكالية المعقدة ؟ ما هي الأسباب وما هي الدوافع والدواعي إلى الكتابة فيه، والخوض في غماره، والغوص في بحاره، وتجشم مشاقه ؟..
سبب ومسبب :
لقد أحسست بعد الاطلاع على ما في بعض أمهات الكتب العربية والمصادر الإسلامية.. وما جاء تبعا لها من الدراسات والأبحاث والمراجع، أحسست بله تأكد لدي بأن هذه القضية*قضية الإسلام والشعر* بالشكل الذي عرضت وتعرض به، إنما هي قضية مفتعلة من أساسها ولا ترتكز في بنائها على أسس متينة أو معقولة أو على الأقل مستساغة ومقبولة فكريا وأدبيا، وبدا أنها تحتاج في الحقيقة – شأنها شأن مجموعة من القضايا والمشكلات التي يعج بها تاريخ الإسلام والمسلمين قديمه وحديثه - إلى إعادة النظر في مرتكزاتها ومقوماتها، وإعادة تصنيف لمقتضياتها، وإعادة ترتيب لمكوناتها، وإعادة فحص لكل خيوطها المتشابكة فيما بينها وبين باقي مكونات الرؤية الإسلامية، والبث من جديد في جميع معطياتها وعلاقاتها، ومن ثمة التعاطي معها بشكل مختلف يعتمد على أسس القضية نفسها في مرجعيتها الأصيلة والتي هي الإسلام في شموليته.. لأنها أي *قضية الإسلام والشعر* بكل صراحة تحاشى الفقه الإسلامي الخوض فيها وفي حيثياتها بالطريقة المعهودة فيه عند تناول مواضيعه الفقهية، في حين خاض بشكل مثير في قضايا أخرى قد تكون أقل تأثيرا في الحياة من قضيتنا هذه، مما جعل *قضية الإسلام والشعر* قضية ملتبسة تلعب فيها أيادي أدبية وفكرية بله وفلسفية لا فقه لأغلب إن لم نقل لكل أصحابها، ومن ثمة تعرضت لجملة من التأويلات غير السليمة أحيانا، والرؤى غير الواضحة المعالم أحيانا ثانية، بله وتعرضت لقراءات مغرضة أحيانا كثيرة، وذلك من القديم إلى الحديث على شريط يمتد أكثر من أربعة عشر قرنا.. فتارة نجد أن هذه القضية قد فصل فيها بعد تمريرها تحت شعار "إن الشعراء يقولون ما لا يفعلون.." وأن الشعر يهيم بأصحابه مبدعين ومتلقين في كل واد..وأنه ذو وجوه عدة مختلفة ومتناقضة.. وتارة تنسب القضية برمتها إلى الشيطنة والقيححة -إن كان التعبير صحيحا-(4). وتارة أخرى تسحب القضية على قاعدة "الشعر نكد بابه الشر -أو يقوى في الشر- إذا دخل الخير ضعفولان"(5) وتارة تسيج بسياج يرسم الشعر على "أن أعذبه أكذبه"(6) وتارة نجد القضية تأخذ منحى آخر تحت شعار "اشتغال المسلمين بالجهاد وغزو فارس والروم والفتوحات والحروب عن الشعر فن القول وروايته"(7)، وفي أحسن الأحوال تدخل من باب الانشغال بأمر الدين والنبوة والوحي، والانبهار بأسلوب القرآن الكريم ونظمه وبلاغته(ثامنا).كل هذه المعطيات وما حام حولها من تناقضات فكرية وأدبية وما جاورها من آراء فقهية مستحيية.. وغيرها دفعني إلى التفكير في إنجاز بحث جامعي اخترت له عنوانا *الإسلامية والإبداع الأدبي* فاعترض أحد الأساتذة متسائلا عن فحوى هذا العنوان وعن مغزاه، وما الذي أقصده منه، ثم عما يمكن أن يتضمنه هذا البحث من قضايا.. فهيأت له تقريرا بالموضوع، ودون أن يلقي نظرة على أوراقه انهال علي بالاستفهامات العريضة الطويلة.. وسألـني أسئلة استنكار تفوح منها رائحة الاستهزاء: ماذا تقصد بهذا المصطلح النقدي الجديد الذي تريد استعماله في مجال لا علاقة له به ؟ ما الذي تريده من لفظة " الإسلامية " ؟ وعلى ماذا تدل في تركيبة هذا العنوان ؟ وما هي العلاقة الممكنة بين الإسلامية -إذا كنت تقصد بها الإسلام- والإبداع الأدبي ؟ فنحن نعلم أن هذا المصطلح " الإبداع الأدبي " مصطلح جديد نبت في جو اصطلاحي أدبي نقدي معاصر وفي ظروف تاريخية جعلت منه مصطلحا أدبيا لـه وزنه في مجال النقد الأدبي الحديث وأقل ما يقال عنه هو أنه ينطوي على مجموعة من الأجناس والأنواع والأشكال والمدارس والمذاهب التي لا يعرف عنها الإسلام أو إسلاميتك أي شيء.. إذ ماذا سنجد من نصوص صحيحة في الإسلام عن فنون قديمةأو جديدة، عريقة أو مستحدثة مثلا.. كالمسرح والسينما والرواية وفنون كثيرة أخرى.. وحتى القصة نفسها التي اعتمدها الإسلام في دعوته، وجعلها عمدة في خطابه..؟ لا يستطيع أحد أن يدعي أن الإسلام اعتبرها فنا، أو هي ترقى في نصوصه إلى مستوى الفنية والأدبية التي تتمتع بها القصة في عصرنا، وما أثارته هذه الأخيرة من قضايا نقدية ومناهج تحليلية وتفكيكية وتأويلية شغلت العالم برمته..؟ بله ماذا يمكن أن نجد في الإسلام عن الشعر الحديث في أشكاله الجديدة وأزيائه المتعددة ومقوماته المختلفة ومكوناته المتطورة..؟ ماذا يمكننا أن نجد في هذا المجال حتى على مستوى الفقه الإسلامي الذي تطرق لكل شيء إلا الموضوع المرتبط بما يسمى الآن الأدب..؟ وماذا يمكن أن يقول في أشكال أدبية وشاعرية عديدة نمت في أزمنة مختلفة وترعرعت في وقتنا الحاضر ببناء أدبي فكري مغاير حتى أضحت في كنف ما يسمى الآن بجامع الأجناس..؟
إن الإسلام - يقول الأستاذ – لا يعرف غير الشكل القديم للشعر أي في شكله العمودي وبنائه الذي أصبح يعتبر الآن كلاسيكيا، بله إن معرفته هذه لا ترقى إلى المستوى الأدبي الذي كان عليه الشعر قبيل وزمن ظهور الإسلام.. إن الدين الجديد في وقته وقف من الشعر –يضيف الأستاذ- موقفا عدائيا، ورسم له مسارا أصبح من خلاله خادما له ولأغراضه الدينية المحضة، مما جعله يحيد عن خط الشعرية والشاعرية الذي كان قد بناه الشعراء الأوائل منذ قرون حتى وصل إلى مستويات عالية من الجودة والفنية والأدبية، بله وصل إلى حد القداسة وما المعلقات إلا نماذج على ما ندعي.. كما أن الإسلام –يقول الأستاذ- حارب الشعراء وفرض عليهم قيودا قتلت روح الموهبة عند بعضهم، أو حدت من قول الشعر عند بعضهم الآخر، وزهدت آخرين فيه، وضعفت مستواه الفني وجمالي عند طائفة ثالثة، ولم تتمكن فئة أخرى حتى من تمثل ما اشترطه الدين عليها كلية.. وهكذا لحظنا اضطرابا شديدا –يضيف الأستاذ- في ذلك العهد حجب الرؤية الفنية والأدبية والجمالية للبقية الباقية من ذلك النشاط الذي كان مفخرة العرب وديوان علومهم ومنتهى حكمهم به يأخذون وإليه يؤولون –كما جاء عن بعض النقاد القدامى-.. إن موقف الإسلام كان غير راض وغير مرض.. وإني أخاف – يستطرد الأستاذ – أن تأتيني بكلام لفلان أو فلان، أو أقوال لعلان.. ثم تقول لي هذا رأي الإسلام في هذا الجنس من الأجناس أو هذا النوع من الأنواع الأدبية الحديثة، أو هذا الفن من الفنون المنضوية تحت مصطلح *الإبداع الأدبي* والتي هي - كما قلت - من الفنون المستحدثة؟
وذكرني اعتراض الأستاذ ومناقشته للموضوع – وهو هنا ينقل كثيرا من الأفكار الشائعة والمبثوثة في بعض المصادر والمراجع- ذكرني ببعض الافتراضات التي ملأت أسواقنا الثقافية والفكرية والأدبية وحتى العلمية في فترة زمنية خلت، تلك الافتراضات أو النظريات التي استقبلت في عالمنا المعاصر بكل حفاوة، واتخذت على أنها مسلمات في تاريخ الأدب العربي والإسلامي.. فلازمت بذلك الأدباء والباحثين والدارسين ردحا من الزمن غير قصير، وأخذت توجه العقلية "الأدبية على الخصوص" بعد أن نفخ فيها المستشرقون نفخا وروج لها المستغربون ترويجا في ظل الفراغ الثقافي والأدبي الذي طال آفاقنا حديثا وحاضرا، وصفق لها فيما بعد تلامذتهم وطبلوا في عالمنا العربي والإسلامي.. واستساغتها ذائقة كثير من الشباب الذين لا يكلفون أنفسهم عناء البحث وكبد التحقيق في مثل تلك الافتراضات قبل أن يجعلوها من المسلمات أو يعدوها من الحقائق العلمية التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها.
وفي الحقيقة وبكل صراحة، أنا لا أفهم لماذا كلما قيل إن للإسلام منهجا خاصا به في قضية معينة من قضايا الوجود والحياة أو إن الإسلام يملك رأيا أو نظرة أو رؤية أو طرحا محددا لمسألة من المسائل أو قضية من القضايا التي تهم الإنسانية أو تخدم البشرية من قريب أو من بعيد إلا وانبرت مجموعة ممن لا تلهيهم تجارة ولا بيع ولا شغل عن محاربة هذا الدين والتصدي له، ومواجهة رجالاته.. انبرت بكل ما تملك من قوة ومن رباطة جأش لمهاجمة الإسلام في مبادئه وأسسه ومقوماته وخصائصه دون مراعاة للحق أو الحقيقة، ودون مناقشة علمية متجردة عن الأهواء ودون قرع للحجة بالحجة.. وإنما يكيلون التهم تأسيا بأولئك الذين هاجموا مسيحيتهم الأوروبية.. وفي أحسن الأحوال يحاولون اللف والدوران للتشكيك في مصداقية ما يطرحه الإسلاميون..ويعتبرون مشروع الأدب الإسلامي المعاصر مجرد حلم تماما كما فعل صاحب مقال "الأدب الإسلامي نظرية منتفخة وكتابة ملتبسة" الذي انتهى إلى سؤال ماكر يقول فيه: "لماذا بقيت النّظريّة (أي نظرية الأدب الإسلامي) وحيدة دون جماهير، بينما ذهبت الكتابة الإبداعيّة باسم المصطلح (الأدب الإسلامي) تسير في غير هدى، لتتخبّط هنا، وتسقط هناك، وترقب هنا، وتمنّي هناك؟"(9)..
إن الإسلام لم يحارب بالعلم والمعرفة والثقافة والبناء الفكري العاقل بقدر ما حورب بالجهل والجهل المركب أو بالتبعية والنقل عن الآخر الذي يعتبر مركز انبهار، أو ببتر نصوص الإسلاميين وتشويه صورة ما يقصده أصحابها منها.. وها هي ذي قضيتنا في شقها المتعلق بقضية "الإبداع الأدبي" تبنتها كل المذاهب الإنسانية ووقعت عليها أسماءَها كلُّ الأجناس البشرية، واشتغلت عليها كل المشارب واحتضنتها كل المدارس، وناقشتها كل المناحي الفكرية والملل الثقافية والنحل العلمية.. والكل استطاع بكل بساطة ويسر أن يدلي بدلوه دون أي معارضة ناسفة تذكر، ودون أي تهديد بالإقبار يعلن.. فقد تختلف الآراء وتتباين النظرات وتتباعد الرؤى وتتضارب الطروحات ويكثر اللغط إلى أبعدالحدود.. ولكن أن يُنسَف مذهبُُ معين أو يُنكر على مسلك محدد اهتمامه بمثل هذه القضية فلا وألف لا.. اللهم إلا الإسلام فلا يجوز أن نقحمه في مثل هذه القضايا.. لايجوز –في اعتقاد بعضهم- أن يقال إن الإسلام الدين السماوي يقول في هذا الأمر الدنيوي أو تلك القضية الإنسانية كلمته، لا يمكن أن يبدي فيه نظرته.. فهو دين مقدس –في أحسن تعابيرهم تفاديا..- يجب أن لا ندخله فيما هو دنيوي فيما هو مدنس – ألا ساء ما يزرون، فهي كلمة حق من جهة معينة يراد بها باطل من جهات أخرى.-.
ما العمل..؟
سنحاول – إن شاء الله – جاهدين أن نقف على بعض هذه المغالطات التي رافقت رحلة ما يمثل الأدب الإسلامي إبداعا ونقدا وتنظيرا، وسنسلط الضوء عليها ونوضحها، ونبث في فصولها بعين فاحصة ناقدة مدققة – ما استطعنا إلى ذلك سبيلا – علنا نتبين وجه الحقيقة فيها ونتأكد – على الأقل – من أن القضايا المبنية أو القائمة على الافتراض نحو أدبنا العربي والإسلامي لا ترقى إلى مستوى المسلمات بأي حال من الأحوال، ومن ثمة سنعمل على خلخلة ذلك الصرح المبني على غير الأسس المتينة، والذي اعتلاه ثلة من الباحثين والدارسين الذين منهم من لا يقصد إلا الوقوف في وجه الموجة الجديدة المعاصرة في بحر الأدب الإسلامي العميق والعتيق، وليس له هم الاهتمام بالقضية في أصلها، ولكن كل همه أن لا يقال بأن الدعوة إلى أدب إسلامي معاصر له أصول ضاربة جذورها في عمق التاريخ.. وهكذا سنعمل جاهدين على زحزحة مجموعة من الأفكار التي طال عليها الأمد فقست وجمدت، أو خلدت إلى النوم في بطون مصادرنا القيمة، وسنظهر حقيقة بعض المشتبهات، ونكشف عنها كي تظهر على لونها الحقيقي، وتسير في مسارها الطبيعي، وذلك ليس بالتصدي المباشر لها، ولكن بالوقوف طويلا عند شعب الموضوع المختلف فيه، وبسط مكوناته..كما سنحاول أن نقف عند موضوع دراستنا انطلاقا من رؤية خاصة في القراءة والتحليل، ولقد كان تقليدا أن نتبع تطور *قضية الإسلام والشعر* كما فعل أغلب الدارسين حسب التطور الزمني للقضية أي أخذها بداية من العهد المكي الذي ذكرت فيه لفظة الشعر مرارا، وأخيرا الوقوف عند العهد المدني الذي تجلت فيه أواخر سورة سميت "الشعراء" حسب رأي بعض العلماء.. لكن فهمي لطبيعة الموضوع وكيفية طرحه فرضا التعامل معه بشكل مختلف وبعيد عن هذه النظرة الخاضعة لتغير المراحل وتبدل الوضعيات (كرونولوجيا)، لأن القرآن المكي في اعتقادي لا يتحدث عن الشعر فنا وإبداعا أدبيا أو ممارسة بشرية تتوسل اللغة الفنية، بل يتحدث عنه بديلا اصطلاحيا مقترحا أو اسما مقترحا جديدا يجب من خلال فرضه أن يحول وجهة المتلقي ومعتقده من.. إلى.. وهذا ما سوف نقف عنده فيما يأتي، أما في الآيات المدنية من سورة الشعراء ذات الأصل المكي فقد أصبح الموضوع مطروحا فيها على اعتبار أنه يتعلق في هذهالمرحلة بفن وأدب وإبداع أي بسلوك لغوي يحمل طروحات جمة تعتبر معيقات بالنسبة لمسيرة الإسلام، وهذا هو الأهم عندنا فيما نخطه الآن، لذا تم التعاطي مع القضية انطلاقا من سورة "الشعراء" في آياتها الأخيرة المدنية –حسب أرجح الأقوال- أولا، لنعرج فيها على مجموعة من الأمور والقضايا المتعلقة بما شاع حول "موقف الإسلام من الشعر" كما هو مشاع بين الدارسين أو "موقف الإسلام من الإبداع الأدبي" كما نقترح نحن في بحثنا هذا.. ممهدينبنتيجة البحث فيها (أي في آيات الشعراء) لمناقشة موضوع آية سورة "يس" المكية وما تزامن معها في النزول وخوض المعركة القولية من آيات أخر، لينتقل البحث بعد ذلك إلى موقف الحديث النبوي الشريف في الموضوع ذاته، وذلك بالوقوف على نصين اثنين فقط واللذين يظهر منهما أنهما متناقضان ومتنافران، وهما يصوران موقف الإسلام من الشعر أو الإبداع الأدبي، مما أرسى تناقضا وتنافرا واختلافا بين الباحثين والدارسين.. دون أن ندخل في سرد النصوص النبوية الشريفة –إلا ما فرضه علينا واجب البحث- على الرغم من كثرتها صحيحها وضعيفها أقوالها وأفعالها وإقراراتها التي زخرت بها كتب الحديث والتفسير والتاريخ والسير والأدب واللغة والأمالي..
عود على بدء:
وقبل طرق أي باب من أبواب هذه الدراسة، نود أن نبدأ بتوضيح غاية في الأهمية لكونه يتضمن إجابة عن سؤال وجيه وماكر في الوقت نفسه وهو: كيف يمكن أن يكون للإسلام نظرة محددة أو رؤية معينة في قضية الإبداع الأدبي وهو دين لم يعرف في تاريخه غير جنس واحد وفي شكل منفرد هو الشعر في زيه القديم/الجاهلي ذي التركيبة العمودية؟. وهذا من حيث المبدأ معقول، ولكن من حيث النتائج فغير مقبول. فلا أحد يستطيع أن يستر واقعا مشهودا، أوأن يتنكر لحال تاريخية، أو أن يبدل أو يشوه الحقائق التي لا غبار عليها.. فالإسلام لم يجد فعلا أمامه غالبا على لب القوم، مالكا عليهم عقولهم، آخذا عليهم وجداناتهم، فارضا هيمنته على حياتهم غير البيت والقافية.. ولم يعايش الإسلام فعلا إلا ما كان معروفا من شعر قديم فنا قوليا، وهو ما كان متعارفا على مرتبته العالية ومكانته السامية في صناعة اللغة وفنية القول.. لذلك نقول إن التساؤل في مثل هذه القضايا معقول ومقبول بله هو واجب على قاعدة قوله عز وجل:]فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون[(النحل:43) وعلى قاعدة قوله صلى الله عليه وسلم: ]ألا سألوا إذ لم يعلموا فإنما شفاء العي السؤال[(10).وعلى اعتبار أنه سيحفز على البحث عن إجابات معقولة ومقبولة هي الأخرى، وليس لتحصيل الجانب السلبي من الإجابات المفترضة وتحصينها بأساليب غير علمية، وفرضها على أنها الوحيدة والصائبة.. ولذلك فالسؤال السابق مقبول من الناحية المبدئية، ولكن من حيث النتيجة والهدف المرسوم فإنه غير مقبول تماما.. فالعاقل لا يمكن أن يقع في مغبة الأسئلة التي تحمل في طياتها إجابات مسبقة يود واضعوها أن يجروا المتلقي إلى تبنيها بنوع من الدهاء والذكاء.. لا يمكن أن يقع العاقل الذي يتعامل من خلال الشعار العمري الفاروقي: "لست بالخب ولا الخب يخدعني" (11) .. ولهذا وجب قبل البدء في بسط فقه قضيتنا "الإسلام والإبداع الأدبي" وجب الاتفاق على توضيح مهم ومرتكز أساس وهو أنه "وإن لم يكن الإسلام يعرف الأجناس الأدبية جميعها فهذا لا يعني أبدا أننا لن نجد فيه سبيلا إلى معطيات دينية أو إشارات عقلية أو أخبار تاريخية أو حقائق أدبية أو مواقف إيحائية من خلالها يستشف المرء الغاية والهدف من هذا الموضوع/القضية.."
إن الشعر في الشكل القديم/العمودي كان الفن القولي الذائع الصيت، والحكي الأدبي الشائع بين العرب جميعها، والمعتبر في الدرجة الأولى وبكل المعايير في صدر الإسلام الأول بله وقبله بكثير، ولم يكن طبعا هو الوحيد في عصره، فلقد كانت فنون من النثر منتشرة حينها إلا أنها لم تملك على العربي عقله وقلبه كما فعل الشعر/السحر .. لذلك يمكن القول إن الإسلام لم يجد غير هذا الجنس المعترف بفنيته والمتباهى بأدبيته والمتعارف على أهميته بله وعلى قدسيته.. كي يوليه الاهتمام نفسه، لذلك كانت أحكامه ومواقفه ورؤاه النقدية ونظراته التصويبية تنصب على هذا الجنس الأدبي المشهور آنذاك .. ولا غرابة في هذا، فكل جديد تكون قبله معطيات قديمة يجب التعامل معها حسب طبيعتها ووظيفتها وغاياتها، ومدى ملاءمتها للجديد أو تعارضها معه..
العمومية والكلية:
وما يجب التفطن إليه والأخذ به في اعتبارنا قبل الخوض في تفاصيل قضية ما اصطلح عليه بـ "الإسلام والشعر" هو القاعدة المتأصلة في التفسير وأصوله والقائلة *" العبرة بعموم اللفظ وليس بخصوص السبب"* لذا نود أن نعطي هذه المسألة/القضية مفهوما أوسع، وبعدا أشمل ارتكازا على هذه القاعدة الدينية/الأصولية، وأيضا استنادا إلى قاعدة أخرى وهي قاعدة لغوية/ بلاغية تقول: *"إطلاق الجزء وإرادة الكل"*.. فالشعر والشعراء في طرحنا يمكن تغييرهما واستبدالهما – من أجل الدرس طبعا – في الآيات القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة والآثار التاريخية التي وردت في الموضوع بالإبداع الأدبي والمبدعين الأدباء، وذلك حسب القاعدة الأولى "العبرة بعموم اللفظ".وكما لا شك في القول إن الشعر يعتبر جزءا لا يتجزأ من الإبداع الأدبي بل هو في القمة -وحسب القاعدة الثانية– فإن ما قاله الإسلام عن الشعر يمكنه أن يطال غير الشعر من الفنون والأجناس والأنواع الأخرى، أي أن يسحب بشكل أو بآخر على كل الأجناس والأنواع والأشكال التي تسلك مسالك الأدبية، سواء كانت قديمة أو حديثة، خاصة وأن الإسلام لم يعرض لطبيعة الشعر أو شكل هذا الكائن اللغوي، بقدر ما أعطى صورة عن وظيفته وأدائه سلوكا إنسانيا..
وأخيرا وليس آخرا:
وأخيرا وليس آخرا نعيد القول بأننا سنناقش هذا الموضوع بناء على فهمنا لمسألة "الإسلام والشعر" على أنها هي "الإسلام والإبداع الأدبي" متوخين من ذلك إظهار حقيقة هذه القضية المختلف فيها، ومبرزين وجه الحق فيها، مؤكدين على أن بداية الإسلام هي بداية التأسيس لما يسمى "الأدب الإسلامي".. هذا أولا، ثم ثانيا وهذا هو الأهم، نود من خلال نتائج البحث في مظاهر القضية أن نؤصل أو نساهم في العمل على التأصيل لإبداع أدبي إسلامي معاصر بدأت معالمه تتشكل وتبرز في الآونة الأخيرة، بكل أشكاله وإشكالاته وهمه وهمومه، وبكل تبعاته وأدواته ولوازمه حتى أضحت له مجموعة من الكتب والأسفار والأبحاث والدراسات(12) والمنابر الإعلامية المشهورة والمشهود لها عالميا..(13)وسوف نرصد في دراستنا هذه مجموعة من القضايا التي تتعلق بما طرحناه أعلاه تحت العنوان العريض الذي هو: *"* فقه الإبداع الأدبي في الإسلام*"* وذلك من خلال هذا الجزء الأول الذي يحتوي على فصلين اثنين هما:
الإبداع الأدبي الإسلامي.. التأسيس على التأصيل.. (موقف الإسلام من الإبداع الأدبي)..
مفهوم الإبداع الأدبي في الإسلام.. (نظرية ضعف الإبداع الأدبي)..
على أمل أن يكون الجزء الثاني –إن شاء الله تعالى- محتويا على فصلين آخرين هما:
نظرات في الإبداع الأدبي الإسلامي القديم.. (من أدب البداوة إلى أدب الحضارة)..
جولات في الإبداع الأدبي الإسلامي المعاصر.. (بنية الغربة والعودة في شعر الإسلامية)..
الهوامش والمراجع :
1. رواه أبونعيم والبيهقي وابن عساكر والطبراني في الكبير وأبو يعلى انظر "سلسلة الأحاديث الصحيحة" محمد ناصر الدين الألباني مكتبة المعارف للنشر والتوزيع الرياض 1415هـ - 1995 م.. المجلد الثالث الصفحة 1062.رواه مسلم وأصحاب السنن انظر "صحيح سنن أبي داود" لمحمد ناصر الدين الألباني مكتب التربية العربي لدول الخليج الطبعة الأولى 1409 هـ - 1989 م الصفحة 541 من الجزء الثاني..
3.الصفحة:11 من كتابه" قضية الإسلام والشعر أو صراع العقيدة والقصيدة" الطبعة:2 / 1996 دار النشر المغربية الدار البيضاء..
4.الجامع الصحيح للإمام مسلم النيسابوري. الموسوعات الإسلامية دار الفكر المجلد الرابع الجزء السابع الصفحة:50. كتاب الشعر باب تحريم اللعب بالنرد.. والمسند للإمام أحمد بن حنبل طبعة دار المعارف 1985. أحمد محمد شاكر الجزء :22 الصفحة:33 رقم الحديث 11072 و11388 من مسند أبي سعيد الخدري.. وعن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال اللهم إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم وهمزه ونفخه ونفثه قال همزه الموتة ونفثهالشعر ونفخه الكبر.. صحيح سنن ابن ماجة محمد ناصر الدين الألباني مكتب التربية العربي لدول الخليج الرياض الطبعة الثالثة 1408 هـ - 1988 م الصفحة: 135 المجلد الأول..
5.قولة للأصمعي انظر كتاب:"الشعر والشعراء" لابن قتيبة الدينوري دار الثقافة بيروت الطبعة الثانية 1969 الجزء 1 الصفحة 311وانظر الموشح للمرزباني تحقيق علي محمد البجاوي دار نهضة مصر 1965م الصفحة:85.. وانظر الاستيعاب في معرفة الأصحاب لابن عبد البر القرطبي مطبعة حيدر آباد الدكن 1336هـ الجزء الأول الصفحة:127.
6.قولة مشهورة..
7.طبقات فحول الشعراء محمد بن سلام الجمحي قرأه وشرحه محمود محمد شاكر مطبعة المدني القاهرة طبعة 1974 الملجد:1 الصفحة:25
8.مقدمة ابن خلدون تصحيح وفهرسة أبي عبد الله السعيد المندوه مؤسسة الكتب الثقافية بيروت لبنان والمكتبة التجارية مكة المكرمة الطبعة الثانية 1996 المجلد الثاني الصفحة: 288.
9.للكاتب علي فايع الألمعي بجريدة "الوطن" السعودية بتاريخ: الثلاثاء 9 ربيع الآخر 1426هـ الموافق 17 مايو 2005م العدد (1691) السنة الخامسة.. وانظره على الرابط الإلكتروني:[URL]http://www.alwatan.com.sa/daily/2005-05-17/culture/culture09.htm[/URL]
10.صحيح سنن أبي داود الألباني الصفحة:68 المجلد:1 رقم الحديث:325.
11.قولة مأثورة عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه..
12.انظر "دليل مكتبة الأدب الإسلامي في العصر الحديث إعداد الدكتور عبد الباسط بدر دار البشير1992..
13.من أشهر المنابر: مجلة "الأدب الإسلامي" التي تصدرها رابطة الأدب الإسلامي العالمية.. ومجلة "المشكاة" التي تصدر من فرع الرابطة بوجدة / المغرب.. وغيرهما من الملاحق الثقافية التي تعنى بالأدب الإسلامي إبداعا ونقدا وتنظيرا..
تحميل ملف "PDF"
للدراسة تتمة آتية بإذن الله تعالى
الجزء الثاني
الإسلام والإبداع الأدبي:
الإسلام والإبداع الأدبي:
0 تعاليق:
إرسال تعليق