class='ads'>
الثلاثاء، أبريل 28

الجزء السابع من دراسة: لماذا قالت الملائكة: "أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء"


الجزء السابع من الدراسة تحت عنوان:

" وقفة تأملية بين الخلق والجعل "


الدكتور عبد الرزاق المساوي

وقفة تأملية بين الخلق والجعل
-------------------------------------

 ولا بأس أن نقف عند هذه النقطة هنا بما أن السياق استدعاها ثم نستأنف الحديث عن اختبار إبليس..

إن أول آية نزلت في القرآن الكريم تقص علينا بداية خلق آدم عليه السلام وتنبئنا بالأحداث العظام التي وقعت في الملإ الأعلى كانت بسورة (ص) وهي أول سورة من حيث ترتيب النزول وليس من حيث ترتيب المصحف تحمل مشاهد من قصة آدم عليه السلام، وأول مشهد تصوره لنا يتجلى في قول الرب سبحانه وتعالى: <(إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين)> (٧٠) .. ثم تأتي سورة الأعراف بقوله جل وعلا: <(وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ.. )> وسنقتصر على الوقوف بين يدي السورة الأولى(ص) والثالثة نزولا من حيث الموضوع وهي سورة (الحجر) التي جاءت بعد الأعراف لتحكي لنا من جديد بعض مشاهد القصة مذكرة إيانا بقضية خلق آدم عليه السلام جاء فيها <(وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من صلصال من حمإ مسنون)>(٢٨) هنا يبدو التطور على مستوى دلالات أطوار الخلق من طين ومن صلصال ومن حمإ مسنون؛ ثم تأتي سورة البقرة وتعتبر أول سورة مدنية نزولا وثاني سورة في ترتيب المصحف وآخر سورة تذكر فيها قصة آدم عليه السلام التي هي أول قصة ترد في وجه قارئ المصحف، إذ نجدها على عتبة الآية الثلاثين ليصل سردها إلى الآية الثامنة والثلاثين وتبتدئ بقول المولى جل وعلا: <(وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة)> (٣٠) وتنتهي بقوله سبحانه: <(والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون)> (٣٨)..

لقد جاءت الآيات في سورة (ص) قبل الحديث عن قصة آدم عليه السلام تصور لنا مشاهد تخاصم أهل النار، تصور لنا بدقة متناهية وبليغة لقطات قصيرة من نقاشاتهم وحواراتهم وجدالاتهم فيما بينهم حول ما آلوا إليه وما صاروا فيه، ثم بعد ذلك وبتركيز شديد تأتي الإشارة القرآنية إلى الكون كله من خلال ذكر السموات والأرض وما بينهما، ونسبة كل ذلك إلى الرب العزيز الغفار، لينتقل الحدث من الكوني العالمي  إلى الواقعي الحالي بتشخيص لغوي عجيب لحال الإعراض عن النبإ العظيم، وما يقع في الملإ الأعلى من الأحداث الجسام والأمور العظام التي تصور ذلك التخاصم، ثم تنتقل بعد ذلك إلى تصوير الحدث الجلل ألا وهو خلق آدم عليه السلام .. ربط للماضي بالحاضر بالمستقبل بشكل عجيب وغريب.. الزمان سلسلة واحدة مغلقة كأن أولها آخرها وكأن آخرها أولها..

سياق القصة إذن في (ص) جاء سردها بعد الحديث عن أحداث يوم القيامة وهي الأحداث التي تصور آخر مراحل الإنسان وهو يوم الحساب، بحيث إما أن يكون المرؤ ضمن فئة "وإن للمتقين لحسن مآب" وإما أن يحشر ضمن "وإن للطاغين لشر مآب" وهذا جاء بعد الحديث عن تلك الكوكبة من الأنبياء والرسل عليهم السلام وبما أن هذه الكوكبة حقيقية وواقعية ويشهد التاريخ بوجود شخصياتها وصدق أحداثها وأنه لا مراء في كينونتها، وبما أن هذا الذي يخبر بكل تلك الأحداث أميّ، وليست له عشرة مع أهل الكتاب من قبل.. فإذا كان صلى الله عليه وسلم صادقا في إخباره عن الرسل والأنبياء وملما بأحداث الأمم والأقوام وعارفا بطبيعة المراحل التاريخية التي كانوا فيها وهو الذي لم يسبق له بذلك علم ولا دراية ولم يطلع على مصدر أو مرجع ولم يجتمع بشيخ ولا خبير ولا عارف، إذا أخبر هذا الأمي بما كان معلوما عند المتلقين/المخاطبين وكان في ذلك صادقا، فلماذا لا يصدقونه فيما يخبر به من أمور أخرى هي أيضا غيب؟ مثل الحديث عن يوم الحساب كنهاية لكل مراحل الحياة الإنسانية، وكذا البدايات الأولى لخلق الإنسان .. 

    وبذلك تكون الإشارة إلى الصراع الطويل الذي بدأ بين آدم عليه السلام وإبليس في الملإ الأعلى مرورا إلى الصراع بين الحق والباطل عبر شخصيات الرسل والأنبياء عليهم السلام مع أممهم وأقوامهم، وانتهاء بالنبإ العظيم حيث الملأ الأعلى في نهاية مطاف الإنسان في صراعه مع الشر إما بصرعه وإما بالاستجابة له..

يكوّن كلُّ ذلك من البداية إلى النهاية سلسلة محكمة الحلقات يخبر بها الرسول صلى الله عليه وسلم وهو الذي قال فيه مولاه سبحانه <(وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى علمه شديد القوى)> صادقا غير كاذب ومحقا غير متلاعب، فكل الخبر من أوله إلى آخره متساوق منسجم وهو من مشكاة واحدة، يصدر عن عليم خبير، وحتى شكل سرده معجز ومقنع يبدأ بالحديث المباشر مع المتلقين المباشرين واصفا حالهم ومذكرا إياهم بمن سبقهم مخبرا بقصصهم، أي بما هو مشاهَد ومرئي وتاريخي ليفسح المجال لمصداقية الحديث وصدقه ثم يفسح المجال للحديث عن أمور غيبية تصور بداية الخلق ونهايته مُكسِبا إياها بذلك تلك المصداقية والواقعية على الرغم من كون الأولى لم يشهدها أحد، وأما الثانية فتنتظر كل واحد وهي آتية لا محالة..
هنا تجلت معالم السرد القصصي لبداية خلق آدم عليه السلام ليأتي في نهاية سرد قصص كوكبة كريمة من الرسل، وبعد الحديث المطول عن يوم الحساب بكل ما يميز هذا اليوم من أحداث ووقائع وشخصيات وظروف زمانية ومكانية وحوار وجدال وصراع وتساؤلات ومناقشات وتجليات...

في هذه السلسلة من الصور والمعطيات الحية تبرز الآية الكريمة <(إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين)>.. وبما أن السورة مكية فطبيعتها تقتضي التركيز على قضايا العقيدة وما يتفرع عنها، لذلك يأتي ذكر قضايا غيبية أي قضايا غير ملموسة وتصحبها أو تأتي في طيات الحديث عنها أو قل تبرز بعض القضايا الملموسة والمرئية وذلك لتوضيحها وتبيينها وتثبيتها والتدليل على مصداقيتها، كذكر خلق السموات والارض وما بينهما وما فيهما، ذلك الذكر المقتضب والقول الوجيز الذي ركز أشياء كثيرة ولخصها في قوله تعالى: <(رب السموات والأرض وما بينهما العزيز الغفار)> إنه ذكر يحمل الكثير من الذكر ثم تأتي سورة الحجر فيما بعد كي توضحه وتتناوله بنوع من التفصيل والإسهاب ليبدو الحديث عن هذا الخلق المرئي أو الكوني أو العالم المشهود في إطار ذكر مسائل العقيدة وغيبياتها، ثم نعود إلى التركيز والاقتضاب مرة أخرى مع سورة البقرة في شكل آخر وبطريقة مركزة، وتصوير مقتضب، وظلال وإيحاءات جديدة تتناسب والجو المدني للسورة يقول فيها سبحانه وتعالى<(كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون، هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات وهو بكل شيء عليم)> (البقرة ٢٩)

إن السور الثلاث بترتيبها حسب النزول وليس حسب وجودها في المصحف (ص) ثم (الحجر ) ثم (البقرة) أتت جميعها على ذكر ما كان بين الرب والملائكة <(وإذ قال ربك للملائكة إني...)> بعد الإشارات القصيرة أو الطويلة إلى أشياء أخرى تمهيدا لذلك القيل، وبيت القصيد هو أننا نلحظ أن القرآن الكريم عندما يريد أن يتحدث عن قصة آدم عليه السلام فإنه يقدم لها بالحديث عن الكون ظاهره وباطنه، عن خلق السموات والأرض وما بينهما والأحوال المصاحبة لهما من خلق وتسوية وموت وبعث.. لأن القرآن الكريم يعتبر الغيب والشهادة خطين متوازيين وبناءين متكاملين، وكلما وجدنا هذه الصيغة <(إذ قال ربك للملائكة إني)> بهذا التركيب اللفظي، وبهذا الأسلوب اللغوي، وبهذا الشكل في سياق الحديث عن خلق الكون وما فيه يكون ذلك ليتم الربط بين خلقين: خلق الكون وخلق البشر، تكوين الوجود وتكوين الإنسان، تفعيل الكائنات وتفعيل المستخلف فيها.. وقد يسترعي اهتمامنا في هذه السور الثلاث أن ذاك التركيب لم يأت في غيرها من السور مثل الأعراف وطه والإسراء والكهف.. خصوصا قوله تعالى في (ص) و(الحجر) و(البقرة): <(..قال ربك للملائكة)> التركيب الذي لا وجود له في السور الأخرى إلا أننا نجد فيها التركيب اللفظي التالي: <(..قلنا للملائكة)> وشتان بين التركيبين، بين"قال ربك"و"قلنا"فلكل تركيب منهما خصوصياته ومميزاته ودلالاته وعلاقاته. ثم نلحظ أمرا آخر وهو في النهاية مقصودنا من كل هذا الإسهاب نلحظ في سورتي (ص) و(الحجر) قوله تعالى"إني خالق"<(إني خالق بشرا من طين)> (ص) <(إني خالق بشرا من صلصال من حمإ مسنون)> (الحجر) في حين نجد في سورة البقرة "إني جاعل".. <(إني جاعل في الأرض خليفة)> (البقرة)..

ومن خلال تبني فكرة الترتيب حسب النزول يمكن القول بأن الأولى في السبق " إني خالق" والثانية "إني جاعل" لأن الخلق يكون قبل الجعل، والتسوية كانت قبل الاستخلاف، إلا أن بعض العلماء يضعون الجعل على أنه هو الخلق نفسه، أو على أنه كان قبل الخلق تماشيا مع ترتيب المصحف، فكانت مجموعة من المشكلات التي أحاطت بالقصة من كل جانب أفقدتها جمالية تلقّيها وبلاغة توظيفها..

إن وضعية الجعل قبل الخلق عند بعضهم ترك مشاهد من القصة غير واضحة الرؤية وغير بينة المعالم في ذهن المتلقي مما فرض على المتعاملين معها أسئلة كثيرة يتناسل بعضها من بعض.. ولقد حاول بعضهم الإجابة عنها متوسلا كل الوسائل المتاحة والممكنة والتي تعينه على فهم المشاهد وفك رموزها مما اضطره إلى البحث والتنقيب في مصادر خارج المحيط القرآني، فوقعت بسبب هذه الأخطاء المنهجية مغالطات وتأويلات كثيرة جدا، كما طفحت على السطح تفسيرات لا تمت إلى النص القرآني الكريم بأي صلة، بل يمكن القول بأن وضع الأحداث القصصية ومشاهدها بذلك الترتيب وتلك الطريقة دفع إلى الاعتماد على الإسرائيليات منهجا ومخرجا، والتأويل طريقا ومسلكا فغلبت الأسطورة وطغت الخرافة، وإن كان العلماء والدارسون لها كارهين إلا أنهم لم يجدوا عنها محيدا.. لأنها مدتهم-بحسب رأيهم-بحلول لتلك المشاهد التي أبهموها هم أنفسهم، وكانت من صنعهم لعدم التعاطي مع النصوص والمشاهد والحلقات بالشكل الصحيح..

 وبعد هذه الرحلة في قضية الخلق والجعل ومن الأسبق من حيث الكينونة نعود إلى ما كنا فيه، إلى موضوعنا وحديثنا عن إبليس وما فعل بنفسه وما آل إليه باختياره للإباء والاستكبار وعدم طاعة الخالق سبحانه في ما أمر، فما استفاد من فعلته تلك أي شيء.. وليته لم يستفد مرة واحدة فقط، فلقد كان عدم استفادته مركبا ومزدوجا، إذ أتيحت له فرصة اخرى للأوبة والتوبة، وهي عبارة عن دورة استدراكية -كما أشرنا- ربما يحصل منها على خير ينفعه، او شر عن نفسه يدفعه.. وربما يتدارك ما فاته او ربما يمحو الصورة السوداء من كثرة السوء التي ظهر بها امام الملأ الأعلى، وأمام ربه وخالقه، او لعله يحافظ على مستوى الملائكة في طاعتهم وامتثالهم مثلما كان في مستواهم موقعا ومنزلا وقيمة ومكانة.. كان عليه ان يستغل أي فرصة تتاح له كي يحافظ على هذه الدرجة الرفيعة والمكانة المحمودة التي كان فيها متموقعا بدون منازع، وذلك بالتأسي بالملائكة، لكنه لم يستجب استجابتهم ولم يمتثل امتثالهم ولم يتأس بهم ومن ثمة لم ينجح نجاحهم ولم يرق رقيهم..

ولقد كانت تلك الدورة الاستدراكية عبارة عن سؤال وجيه ومنتظر من رب العالمين، ليس لأن الرب عز وجل يريد أن يستعلم فهو العالم العليم الخبير بكل شيء، ولكنه يريد من سؤاله أن يعطي لإبليس فرصة العودة والأوبة إلى جادة الصواب، فلعله بعد أن أبى يمكنه أن يؤوب، وبعد أن عصى يمكنه أن يتوب، هذا أولا.. وأما ثانيا فلتقام عليه الحجة بكونه علم ونظر ثم أبى واستكبر، عرف وخبر ثم عصى وتبختر.. ولذلك كان السؤال الإلٰهي يحمل في طياته عنصرين معنويين هما: الاستيتاب والاستنكار، بأسلوبين استفهاميين متمايزين وذلك عندما سأله المولى سبحانه بأسلوب استعمل فيه النداء بـ(يا) المحدد لطبيعة وجنس المنادى عليه لعله يستفيق من غفلته ويترك إباءه وينسلخ من سابقته ويؤوب الى رشده.. <(يا ابليس ما منعك ان تسجد لما خلقت بيدي استكبرت ام كنت من العالين)>(ص٧٥) ثم سأله في المرة الثانية قائلا: (ما منعك الا تسجد اذ إمرتك..) (الأعراف١٢).. ونقف هنا عند هاتين الآيتين اللتين تحملان قضية واحدة بوجهين متباينين ولكنهما متناغمين متناسقين.
يقول تعالى: <( قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ )>(ص 75 - 76)
ويقول سبحانه: <( قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ )> (الأعراف 12)

وسيكون لنا لقاء آخر مع الجزء الثامن من الدراسة تحت عنوان:

وضع الامتناع بين "أنْ" و"ألاّ":

------------------------



0 تعاليق:

إرسال تعليق