class='ads'>
الأحد، أبريل 26

الجزء الخامس من دراسة: "لماذا قالت الملائكة:أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء"

الجزء الخامس من دراسة:

"لماذا قالت الملائكة:أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء"


الدكتور عبد الرزاق المساوي

إبليس بين الأمر والكفر: 
-------------------------
اما ابليس وهو من الجان الذي خلق من مارج من نار ({..وخلق الجان من مارج من نار}) "الرحمن١٣" ({والجان خلقناه من قبل من نار السموم}) "الحجر27"، فقد كان هو الآخر مستهدفا بفتنة او اختبار في دورتين، ولقد كانت الدورة الاولى بالنسبة له هي نفسها الدورة الثانية بالنسبة للملائكة عبارة عن تنفيذ طلب وهو امر الله تعالى له -بما انه مع الملائكة وضمنهم- وللملائكة بالسجود لآدم فكان عليه ان يقبل الامر بصدر رحب ونفس مطمئنة وبال مرتاح.. وان يمتثل لذلك الامر الإلهي بكل أريحية وبكل تواضع، بل وأن يسجد ويستغرق في السجود أكثر من سواه، ولو فقط انسجاما مع الوضع الذي جعله الله تعالى فيه لانه هو الآخر كان ولا يزال مقبولا بين من لا علاقة له بهم ولم يرفضه احد منهم، ولم يتفقوا على رفضه وإخراجه من بينهم، كما أنهم لم يختلفوا فيما بينهم في الموضوع ذاته، لم يذكروه ولم يتناولوه وهو المخلوق من مارج من نار، وليس من قبس من نور... ثم كان عليه ان يقبل ما دام لا يمثل الا فردا واحدا داخل جماعة او عصبة لا يعلم عددها الا الله تعالى.. وحتى من خلال رده وتسويغ رفضه لم يقل انه لم يكن معنيا بالسجود او لم يكن مقصودا بالأمر، بل ولم يلوح حتى بأن الأمر كان لا يعنيه أو أنه كان موجها للملائكة فقط، مما يدل على أنه كان يدرك إدراكا تاما أنه مأمور وأنه مقصود وأنه معني بالأمر الرباني، وأنه لا فرق بينه وبين الملائكة في هذا الشأن.. 
ورده على عدم سجوده لآدم امتثالا لأمر الخالق سبحانه يدعم كونه كان عليه أن يستجيب للأمر ولو لم يكن ملكا لأن الآمر هو من خلقه من قبل، فكان عليه ألا ينظر إلى الطلب أو الأمر في حد ذاته بل إلى الآمر نفسه سبحانه وتعالى.. وبما أن طريقة الأمر الإلٰهي وشكله وكيفية توصيله ونوعية سننه ليست عندنا واضحة بالنص فيمكن الاجتهاد في تحديد هويتها من خلال النظر في الرصف اللغوي والسياق التركيبي للرد الذي أعلنه إبليس.. ولذلك فيمكن القول بأن الله تعالى حين أمر الملأ الأعلى كلهم أجمعين بالسجود، حينها كان سبحانه متوجها بخطابه الرباني المعروف عندهم والمدرك من جهتهم أجمعين، والكل حشد أمام جلاله وعظمته في حضرته صامتين وجلين ومتوجسين، مستمعين ومنتبهين للخبر الجديد الذي سيلقيه عليهم ربهم وخالقهم، ابتداء من أوله الذي جاء فيه({اني خالق بشرا من طين..}) إلى أن قال آمرا({فقعوا له ساجدين}) مرورا بقوله تعالى: ({فإذا سويته ونفخت فيه من روحي}) فالأمر كان موجها للحاضرين في ذلك الملإ الأعلى وفي تلك الحضرة الربانية، إلى أولئك المستمعين المنتظرين لخطاب ربهم سبحانه، ولذلك لا نجد أي أسلوب للنداء ولا أي أسلوب للتنبيه ولا أي أسلوب يمايز بين المأمورين في النص القراني الإعلاني وهو يحكي لنا ما وقع مشهداً مشهداً، بل وهو ينقلنا في حقيقة الأمر إلى داخل المشاهد وإلى عمقها ولبها وجوهرها، وكأنه يصورها لنا تصويرا، وينقلها لنا نقلا حيا، وليس يحكيها ويرويها ويصوغها حروفا وكلمات وجمل وآيات..
 من هنا يمكن القول -كما سبقت الإشارة من قبل- بأن الأمر الرباني كان عبارة عن طريقة تبليغية إلهية وشكل أدائي رباني والذي يعتبر لغة -واللغة في عمومها نسق من الرموز والأشكال والإيحاءات والإشارات والسنن التي يتم بها التواصل البيّن، ويتحقق القصد من استعمالها- يُفهم من تلك اللغة الإلهية التي تفاعل معها الملأ الأعلى سجود الجميع، أي جميع من كان حاضرا بدون أي استثناء، كل من كان في الحضرة الإلٰهية (ولم يكن حينها سوى الملائكة وإبليس).. فالسجود سيصبح ساري المفعول مباشرة بعد أن يرى كل من في الحضرة الإلهية أن الله خلق وسوى ونفخ الروح <(إني خالق بشراً من طين فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين)>.. لقد تمت صياغة هذا المشهد الإلهي الذي تحقق على مستوى الواقع، تمت صياغته بلغة ربانية دالة على قصد المرسِل/المُلقي، وأيضاً واضحة بالنسبة للمرسَل إليه/المتلقي، وإنّ من أهمّ خصائص اللغة على الإطلاق قصد الإبلاغ.. ولقد تحقق القصد وكانت النتيجة، ثم جاءت صياغة ذاك المشهد بنقله لنا سردا لغويا بيانيا وقرائيا بعد أن جاء عن طريق الوحي أولا ثم الإلقاء ثانيا على قلب محمد صلى الله عليه وسلم، ثم الكتابة ثالثا قرآنا عربيا مبينا في شكل أصوات وألفاظ ورموز وكلمات وآيات يخبر بها المولى جل جلاله عباده عن ذاك الحدث الجلل ويصور بها ذاك المشهد العظيم راسما حركة واضحة تتجلى في إشارات لفظية خفية ممتزجة بعلامات لغوية بينة اجتمعت كلها في التركيب القرآني التالي: ({وإذ قلنا للملائكة اسجدوا})..

 فالخطاب القرآني ينقل للمتلقي أخبار ما حصل وأنباء ما وقع بلغة منطوقة مسموعة مقروءة واضحة المعالم "قلنا للملائكة.....إلا إبليس..." ولم يكن الخطاب الرباني مستعملا أسلوب النداء مثلا "وإذ قلنا يا ملائكتي اسجدوا" حتى يُسْتثنى ابليس من الامر "اسجدوا" على اعتبار ان المنادى عليهم هم الملائكة فقط، وكما سبقت الإشارة أكثر من مرة إنّ هذا الخطاب/الأمر لا نعرف كنهه بالضبط/تماماً.. بمعنى هل صدر خطابا لغويا/مسموعا؟ أم أنه وُجِّه بطريقة إشارية/حركية/مرئية؟ أم أنه خطاب رباني مدرك ومفهوم بطبيعة تواصلية خاصة كالوحي والإلهام مثلا؟ المهم في هذا الخطاب التصويري هو أن الملقي قال قوله، وأن رسالته كانت واضحة المعالم، وأن المتلقي بدوره علم وفهم ووعى وتفاعل..

  ونعيد مرة أخرى القول ولا نمل بأن هذا الأمر الإلهي كان موجها دون استعمال لأسلوب النداء الذي قد يخصص المنادى، ويحدده ويوضح طبيعته فكأننا امام مشهد تواصلي يتحدث فيه الجليل جل جلاله إلى كل من يمثل أمام عظمته -كما سبقت الإشارة- بمجموعة من الأخبار القادمة.. والأحداث المستقبلية والتي لا قبل لهم بها من قبل (من خلق لآدم وتطوره، وحديث عن طبيعته وكيفيته وكنهه) الى المطالب والأوامر المقدمة (من تنفيذ أمر السجود والطاعة والتعظيم)، ثم أرسل الله تبارك وتعالى هذه المشاهد عن طريق الوحي إلى رسوله صلى الله عليه وسلم مخاطبا إياه بضمير المخاطب الكاف المضاف الى لفظ (رب) في قوله "وإذ قال ربك" ليسجل تلك الأحداث والوقائع  وينقشها في قلوب المؤمنين، ويدونها حبراً على ورق في كتابه المعجز الخالد بأسلوب لغوي تصويري رائع مبين نستفيد منه أن هذه اللغة واصفة بكل بلاغة وبيان راسمة الخطوط العريضة لطريقة التواصل التي تمت بين الخالق سبحانه ومخلوقيه معا (الملائكة جماعة وإبليس فردا) فانتهى الخبر بتسجيل انصياع الجماعة وعصيان الفرد.. وبهذا ضيع إبليس على نفسه علامات هذه الدورة، ولم يحصل منها على ما يفيده غير وصفِه بالاستكبار والاستعلاء والكفران والطغيان، ولم ينل منها غير اللعنة والطرد من الرحمة والخروج من تلك الكوكبة العظيمة حيث الطاعة والامتثال، ولم يفز بغير الإبعاد عن أجواء الملإ الملائكي بنورانيته وقدسيته حيث تتمثل "سمعنا وأطعنا" واقعا فعليا واقعا معيشا، وليس قولا فارغا.. لم يستفد إبليس من حضوره في زمرة الملائكة ولم ينل خيراً من رقيّه في تلك المكانة السامقة ولم يفز بلذة المكان الذي كان حالا به في ظل الحضرة الإلٰهية.. 

وسيكون لنا لقاء آخر إن شاء الله تعالى مع:

إبليس من الإباء والاستكبار إلى الكفر:
---------------------------------------

0 تعاليق:

إرسال تعليق