class='ads'>
الثلاثاء، أبريل 28

الجزء السادس من دراسة: لماذا قالت الملائكة: "أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء"

الجزء السادس من دراسة:

لماذا قالت الملائكة:

"أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء"



الدكتور عبد الرزاق المساوي


إبليس من الإباء والاستكبار إلى الكفر:
---------------------------------------------------------

<(وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين)> (البقرة 30) ولقد جمعت سورة البقرة في هذه الآية ما تفرق في سور نزلت قبلها وهي (ص) من جهة و(طه) و(الحجر) من جهة ثانية حيث نجد قوله تعالى في (ص)<(إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ )> ذكر الاستكبار، وفي (طه) <(فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى)> أما في (الحجر) <(إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ)>.. فجمع الله استكبر التي في (ص) وأبى التي في (طه) و(الحجر) ثم قدم الإباء على الاستكبار في (البقرة)، والإباء في قوله تعالى "أبى" يصور فعلا ظاهريا ويوضح تصرفا مرئيا وسلوكا مشهودا وعملا حركيا ينتج بفعل تأثير عصابي ضاغط وانفعال جسدي عال وتفاعل جسماني مرئي قبل حتى أن يفكر صاحبه، لذا فهو ترجمة سلوكية لا إرادية ولكنها واقعية، تصور حالات نفسية مكبوتة، وعندما انتبه إبليس وفكر ولاح له إباؤه، وبينه له ربه جل وعلا وسأله عن سبب الامتناع عن الطاعة وعدم لزوم الجماعة، أظهر إبليس الحال النفسية الحقيقية التي وراء هذا التصرف والدافع لهذا الفعل"أبى" الاستكبار وهو نبع الإباء.. فاستكبر فعل نفسي محض وعملية داخلية وتوتر سلبي نابع من القلب صادر عن النفس لا يعلم كنهه إلا الله رب العالمين.. ويستشعره صاحبه الذي يحمله بين جنبيه ولا يشعر به غيره، اللهم إلا إذا أظهره في شكل من الأشكال منها "الإباء" الذي هو الاستمرار في التكبر وملازمة الاستكبار إلى آخر تجلياته، ولزوم مظاهر الرفض، وعدم التراجع عن الغيّ، وعدم الأوبة إلى التواضع أو الرجوع إلى الرشد.. إن الإباء فعل حركي خارجي يولد من رحم مجموع تفاعلات نفسية أعلاها الاستكبار.. لكن الحركة ظهرت بسرعة سبقت ظهور التفاعل النفسي، إن الفعل الخارجي كان من إبليس أسرع ظهورا من الإحساس الداخلي.. لأن إبليس حينها وحينها فقط كان صافي النفس طاهر الروح خلق على الفطرة مكلف بالطاعة والامتثال، وضع على المحك ووقف للاختبار شأنه في ذلك شأن الملائكة وآدم، لذلك كان الإباء منه قبل الاستكبار، كان الفعل منه قبل الإحساس.. وكان الظهور منه قبل الشعور، وكان التعامل منه قبل التفاعل..  

إن الأصل في الصورة أن تكون الآية في سورة البقرة على الشكل التالي "استكبر وأبى" كما لو جمعنا الفعلين من السور المتتالية (ص) و(طه) و(الحجر) فالأولى قبل الثانية والثالثة نزولا، بمعنى أن الاستكبار ذكر قبل الإباء، لكن بلاغة الخطاب الرباني في (البقرة) جعلت الفعل "أبى" بما يحمل من ظلال وإيحاء في الأول ليصور بذلك القفزة العصابية الجسدية المباغثة لهذا المخلوق الناري والتي تعبر فعلا عن الحال النفسية المتوترة والمنفعلة بالحدث بوتيرة سريعة أي "بانفعالية لا شعورية" شلّت كل حركة يمكن أن تعبر عن عملية السجود التي طلبت منه إنه "لم يكن من الساجدين" وهو واقعيا لم يكن منهم لا قبل الأمر ولا بعده، لكنه كان من ضمن المأمورين.. إنه حُرِم التبعيضية، لم يكن من الساجدين.. كما أنه حُرِمَ المعيةَ "أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ"لقد حرم منها وهي ليست معية الوجود بل معية السجود، فقد كان مع الملائكة وجودا  ولكنه لم يكن مع الساجدين طاعة.. كما أنه لم يكن من الملائكة شكلا وخَلقْا ولم يكن من الساجدين طاعة وخُلُقا.. وكأني بإبليس كان يعيش حال التوتر ضد آدم عليه السلام قبل أن يؤمر بالسجود، وعندما أُمر بقي على حاله متصلبا متشنجا مصدوما من طبيعة الأمر ولم يخضع لربه ولم تتحرك قامته.. إن إبليس وهو المكلف لذو نفسية متناقضة تجمع المختلفات، تؤمن بالله إلٰها وتكفر به رباً، تعترف به خالقا وتكفر به معبودا، تؤمن به مُنْظِرا إلى يوم الدين ولا تؤمن به مطاعا حتى يأتي اليقين..

كانت نفسية إبليس متوترة جدا وتستر توترها وتخفيه وتضغط على أعصابها وتعمل على تهدئتها منذ أن جاء الخبر المبين والنبأ العظيم معلنا بداية خلق جديد، خلق آدم عليه السلام وتسويته والنفخ فيه.. وبمجرد أن تم الفعل الرباني وجاء الأمر الإلٰهي بالسجود انتفض الإباء الذي ما هو إلا نتيجة للاستكبار ولكنه هنا كان قبل الاستكبار، كانت الحركة الجسدية أولا، إن هذا الفعل الجسدي "أبى" كان بالإمكان ضبطه وكفه والتحكم فيه وتوقيفه لأنه يعتبر فعلا لا إراديا وعملا لا شعوريا يمكن أن يتداركه صاحبه بالإصلاح والندم على ما فرط، والإقلاع عما بدر، وإظهار النفس الطيبة والقلب المطمئن والسلوك المتزن..."أبى" فعل مجرد يدل على تجرد ردة الفعل التي قام بها إبليس والتي هي الإباء الممقوت من كل ما سواه، وكان من الممكن أن يعتبر هذا الإباء ردة فعل لا إرادية لا شعورية تغتفر ولا تعتبر.. لكن العكس هو الذي حصل، إن إبليس تغطرس في إبائه وظل ظهره قائما غير مُنْحَنٍ، وحرم نفسه وذاته من العودة إلى الرشد والأوبة إلى الرب والتوبة من المعصية، فلقد ارتمى في أحضان تكبره وغطرسته، "واستكبر" وهذا فعل مزيد يجلي استمالة صاحبه للكبر واستماتته عليه واستزادته منه وإصراره عليه وإلحاحه في المضي في سبيله كما يومئ إلى أن المستكبر لم يترك وسيلة إلا وامتطاها ليظهر كبيرا عند غيره <(أبى واستكبر وكان من الكافرين)> فلقد جمع إبليس بين الفعلين الجسدي والنفسي وبذلك كان من الكافرين "أبى واستكبر وكان من الكافرين" ثم إن المولى جل وعلا لم يقل "أبى واستكبر وكفر"، لأن الفعل كفر في مثل هذا السياق سيدل على أن فاعله كان مؤمنا قبل كفره ثم بعد الإباء والاستكبار أضحى كافرا وانسلخ عن إيمانه، ولكن التركيب اللفظي في الخطاب القرآني "وكان من الكافرين" يوحي بأن إبليس كان في حال عادية تماما، وأنه لم يجرب عملية الإيمان في مستواها العباداتي بل كان مخلوقا مكلفا مثله مثل آدم، وكانا معا في مرحلة الاختبار ليتحدد الموقف بجلاء من قضية الكفر والإيمان، ومن أول وهلة، من أول اختبار"أبى" ثم استتيب ولكنه "واستكبر" فاستحق أن يُعتبر "فكان من الكافرين".. استغراق في الكفر منذ البداية منذ اللحظات الأولى، وهو كفر الطاعة والامتثال لأمر الخالق سبحانه، لأن إبليس يؤمن بالله خالقا وعالما وحكيما ومالكا ليوم الدين وواهبا للحياة وقادرا على الإنظار إلى يوم الوقت المعلوم... ومع ذلك فقد "أبى واستكبر وكان من الكافرين" وكان من الكافرين تبطل كل تلك الروايات التي تسرد في كتب التفسير قديمها وحديثها من أنه كان عابدا لله تعالى، زاهدا ورعا لسنين أو قرون طوال، بل وتصوره على أنه كان أعبد وأتقى وأزهد خلق الله في زمانه حتى ارتقى -في زعمهم-إلى مرتبة العالين من خلق رب العالمين..

 كل تلك الأخبار والروايات المسرودة في هذا الباب ينسفها فعل الكينونة بماضويته المحاطة بالحاضر والمشربة بالاستقبال والملزمة بمعنى الحرف "من" التبعيضي... كل ما قيل عن إبليس في كتب التفسير وقصص القرآن وهم وضرب من الخيال، ما أنزل الله به من سلطان... ثم ننظر مرة أخرى في هذا التركيب اللفظي "كان من الكافرين" وليس "كان كافرا" فليس مستقلا بكفره، فكأنه ضمن مجموعة من الكافرين، هو واحد منهم على الرغم من وجوده وحيدا في تلك اللحظة... وهل بعد هذا الاستصغار من استصغار...؟ وهل بعد هذا الإذلال من إذلال..؟ إنه إمعان في التحقير لإبليس الذي قام بهاتين العمليتين الأولى حركية جسدية والثانية نفسية قلبية "الإباء والاستكبار" ظنا منه أنه سيستفرد بذلك ومن ثمة فهو متميز عن غيره، ولكن الله جعله فردا في مجموعة، ولذلك لن يكون له أي فضل على غيره ولا أفضلية له على من سواه، فقد تكون له الأسبقية ولكن ليس وحيدا فهو ضمن شبكة من الكافرين قد يكون فيها من هو أشد منه كفرا.. إذاً فحتى على مستوى الكفر لم ينل إبليس شرفا ولا حضوة، ولكنه حاز قرف اللعن والرجم والذم وجميع مستويات الحقارة والدناءة والصغار والذل والهوان.. لقد انغمس إبليس في كل هذه الرذائل ولم يبق له أي شيء يفيده، لقد فسق فعلا عن أمر ربه، فسق بالمفهوم المادي كما تفسق البذرة وتخرج وتسقط، وبالدلالة المعنوية خرج عن طاعة مولاه وابتعد عن طريق خالقه، وسقط في المعصية وحتى هذه الطريق التي هو الذي اختارها لنفسه -طريق المعصية والإباء والاستكبار والكفر- تأبت عليه وكان فيها بعضا من كل وجزءً من مجموع وفردا في جماعة وليس الكل في الكل.. <(وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين)> وهذه الآية في سورة البقرة تأتي من حيث الترتيب الآياتي أي من حيث الترتيب المكاني في السورة بعد قوله عز من قائل: <(وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة)> (البقرة ٣٠) إلا أنها تعتبر من حيث الزمان الفعلي قبلها لأن السجود كما يظهر من سياق القص في آيات أخرى مرتبط بالخلق والتسوية والنفخ في الروح مباشرة في مثل قوله تعالى:<(فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين)> وليس مرتبطا بالجعل كما يتبادر إلى الذهن من خلال نظرنا في آيات البقرة: <(إني جاعل في الأرض خليفة)> ولذلك يمكن القول بأن "وإذ قلنا" في قوله تعالى "وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرينأسلوب يخضع لما يسمى الاسترجاع  أو الاستحضار (٢٣) فكأن المشهد انتقل بنا على جناح السرعة بحركة استرجاعية من الحديث عن الجعل إلى الحديث عما قبله من الخلق والذي يعتبر هو الكلام الأول في القصة كلها فالخلق كان قبل الجعل، والسجود كان بعد الخلق..
<(وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا)>
<(وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ )>
<( إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ)>
--------------------------------
(٢٣) ويقصد منه انقطاع التسلسل الزمني أو المكاني للقصة في إحدى مستوياتها المشهدية أي الوقوف عند نقطة وصلنا إليها من القصة لاستحضار مشهد أو مشاهد أخرى ماضية تلقي الضوء على التي قبلها لأنها في الحقيقة كان يجب أن تكون من حيث الترتيب للأحداث قبلها لكنها تؤخر لأهداف يرجوها الراوي... 

ويتجدد موعدنا إن شاء الله تعالى مع الجزء السادس بعنوان:

وقفة تأملية بين الخلق والجعل:

------------------------------

0 تعاليق:

إرسال تعليق