الجزء الرابع من دراسة:
لماذا قالت الملائكة:
~<(أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء)>~
~<(ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك؟)>~
الدكتور عبد الرزاق المساوي
الملائكة بين الإقرار والامتثال:
-------------------------
لقد كانت البداية مع الخلق الاول وهو الملائكة فقد فتنهم الله تعالى وهو سبحانه ربهم واعلم بهم فتنتين او لنقل امتحنهم امتحانين اثنين، ولقد كان الاول منهما عبارة عن إقرار المولى جل وعلا وجود ابليس ضمن كوكبتهم وجعلِه بين ظهرانيهم، وربما إشراكه في بعض أمورهم، مع انه ليس منهم ولا من طبيعتهم ولا من جنسهم، وليس على شاكلتهم ولا يملك خصائصهم ولا تتوفر فيه خصالهم ولا مميزاتهم... فهو مخلوق بعدهم ليكون فتنة لهم بما أن طبيعتهم خيرية لم يثر اهتمامهم (ونحن نتحدث انطلاقا مما بين أيدينا من نصوص قرآنية فقط لا ندخل أي شيء آخر اللهم إلا إذا وجدت نصوص الحديث الصحيح) فالملائكة لم يثيروا موضوع هذا المخلوق الغريب عنهم ولم يسألوا الله تعالى عن سبب وجوده بينهم ولا حتى عن الحكمة من مصاحبته لهم، وهم يعلمون انه من الجن اي انه من طبيعة غير طبيعتهم ومن أصل غير أصلهم، فكيف يكون بينهم ولا يعرفون كنهه.. فكان صمتهم عن وجوده بينهم، ورضاهم على تواجده معهم ظاهرين من سياق القصة وأحداثها، بما ان القرآن لم يشر الى عكس ذلك ولم يثبت ضده -والاشياء باضدادها تعرف- ولم يسجل اعتراضهم او استفسارهم او استخبارهم مثلما سجل عنهم تعليقهم على اختيار آدم خليفة في الارض في شكل حوار جرى بينهم وبين ربهم سبحانه وتعالى.. <(وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الارض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون)>..
ولقد كان هذا الحوار الذي فصله القران الكريم -والذي يعتبر ركيزة أساسا في البنية السردية لهذا المشهد من القصة، بل يمكن اعتباره بؤرة القصة بأكملها- كان ذاك الحوار دليلا على أن الملائكة تحاور وتسأل بكل طلاقة في إطار الحكمة الربانية، وتحت لواء الرحمة الإلٰهية، وبأعين العدالة القدسية، وتبدي رأيها من خلال استفساراتها واستخباراتها واستعلاماتها في إطار الحوار المفعم بالتسبيح لرب العالمين والحمد له والتقديس "ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك".. تصرح بفهمها ومعرفتها وعلمها وفكرها في إطار العقيدة التي تؤطرها تحت عنوان: ({سبحانك لا علم لنا الا ما علمتنا انك انت العليم الحكيم})"البقرة٣٢" ولذلك فهم يعرضون فكرتهم حول الخلافة ونظرتهم حول حياة آدم عليه السلام على الارض، وهم يعلمون علم اليقين ان الله عز وجل عالم وخبير وحكيم، فتح لهم هذه الباب في إطار رحمته الواسعة التي لا تحجر على الرأي ولا تقمع الفكر، بل تُقنع بالدليل والبرهان والمشاهدة والتبيان والعرض الصريح مع البيان للرأي الآخر ليتحملوا مسؤولياتهم ونتائج اختياراتهم فهم في وضع المختبر الممتحن.. ولذلك عرض الله تعالى عليهم الأسماء ثم عرضها على آدم، ومن ثمة كانت الملائكة في الملإ الأعلى أمام جواب هذا الأخير آدم عليه السلام عن الأسماء، اكثر خضوعا لله تعالى وأكثر امتثالا له سبحانه..
إن سكوت الملائكة وصمتهم وعدم اعتراضهم او حتى الهمس فيما بينهم بموضوع تواجد ابليس بينهم، وهو المعروف عندهم بالطينة التي ليست من طينتهم ومن الطبيعة غير طبيعتهم فقد قال الله تعالى: ({الا ابليس كان من الجن})"الكهف٥٠"وقال ابليس عن نفسه مخاطبا رب العزة والجلال:({..خلقتني من نار})"ص٧٦". كان هذا هو عين الرضا منهم بما أقره الله تعالى من تواجد ابليس بينهم.. فهو كان معهم وبينهم فقط، كان ضيفا عليهم ونازلا منزلتهم وحالاّ في مكانتهم إلا أنه أولا وأخيرا كان بمثابة اختبار لهم، ولم يكن منهم في يوم من الأيام كما شاع عند بعضهم اعتمادا على تلك الأخبار من الإسرائيليات التي قام بتفنيذها المحققون من العلماء والمفسرين.. كما انه لم يكن من جنسهم ثم تحول عن حالهم وتغير من طينتهم -كما يزعم عوام الناس- عندما نسي وقال "خلقتني من نار" بدل أن يقول "خلقتني من نور" وهذا افتراء على الله وافتئات على الحق، لأن القرآن يقول: "كان من الجن ففسق عن أمر ربه"..
هذا هو الاختبار الاول الذي يعتبر بمثابة الإشارة القرآنية البينة التي رسمت صورة كاملة لتمام الخضوع والخشوع والطاعة والخنوع والامتثال المطلق لإرادة المولى جل وعلا دون اي شائبة تتسلل لأنفسهم فتذهب عنها حلاوة الإيمان باختيارات الله تعالى وتسرق منها القيمة الإضافية وهي قيمة الرضا بقضاء الخالق سبحانه وقدره، ويا لها من قيمة.. فهي راضية مرضية لم يخطر ببالها اي احساس بوجود دخيل على جمعهم ما دام الذي وضعه بينهم هو مولاه ومولاهم.. ومن المحال أن يسكت القرآن العظيم عن مثل هذا الموضوع لو كان فعلا ً للملائكة أي موقف من وجود إبليس بينهم لذكره، بل أكثر من ذلك عندما تبجح إبليس بأفضلية ناريته على طينية آدم لم يسجل القرآن الكريم أي ردة فعل ملائكية، كأن يتبجحوا هم أيضا عليه بأفضلية نورانيتهم على ناريته.. وسكوت النص الرباني دليل على عدم وجود هذا الموضوع أصلا في الأنفس الملائكية الزكية الطاهرة.. هذا هو أول مراحل الاختبار..
وثاني مراحل الاختبار تتجلى في ان الملائكة استجابت وسارعت الى تنفيذ امر الله تعالى بالسجود لآدم عليه السلام فبمجرد ان صدرت الأوامر الإلهية بذلك، تقبلت الملائكة امر الله تعالى بمجرد ان أعلن سبحانه وجوب السجود لجميع من كان في حضرته سبحانه وتعالى دون مناقشة الموضوع ودون مواربة ودون تماطل لم يتأخر احد من ذلك الجمع عن الطاعة والامتثال، والتوكيد اللفظي جاء مرتين متتاليتين في سياق التركيب <( فسجد الملائكة كلهم أجمعون)> سجد الملائكة كلهم أجمعون بدون استثناء، لم يتخلف منهم أحد ولم يبد أي عنصر منهم أي شكل من أشكال عدم الرضا كأن يسجد وهو غير راض أو يخفي ذلك في قرارة نفسه، فالله تعالى يعلم ما يبدون وما يكتمون، ما يعلنون وما يسرون.. ولذلك أشرنا إلى أن التوكيد اللغوي المكرر لفظيا يدل على كمال الاستجابة وكلية الطاعة وجماعية التوجه نحو الآمر سبحانه وتعالى بامتثال الأمر وعلى وجه السرعة عندما قال عز وجل <( فــقعوا له ساجدين )> فكان ما قال جل جلاله وعلى الفور، والدال على الفورية في التنفيذ كما جاء في الأمر هو الحرف الرابط "الفاء" فسجد الملائكة كلهم أجمعون الا ذلك العنصر الذي كان معهم في المكانة، وبينهم في المكان ولم يكن منهم في الخلقة ولا في الخُلُق: ابليس الذي لم يطع ربه تعالى ولم يستطع بسلوكه ذاك ان يؤثر في الملائكة ولم يتمكن من ان يصبح عنصر تشويش سلبي بالنسبة لهم على الرغم من تبجحه بقضية الأفضلية النارية على أصل الخلقة الطينية التي رفع رايتها بكل وقاحة، لم يؤثر في الملائكة ولم يتأثروا هم بسلوكه فيجيبونه كما أشرنا بأنهم أفضل منه على قاعدة أفضلية النور على النار..
لقد سجدوا وأتموا سجودهم وامتثلوا لأمر ربهم وما تراجعوا وما نكصوا وما سألوا وما ناقشوا.. على عكس ما حصل مع ابليس الذي ادعى أفضلية الطبيعة النارية على الطبيعة الطينية.. كيف يا ترى كان سيكون جواب ابليس لو كان من طبيعة نورانية فعلا وهو بهذه النفسية..؟ فربما سيكون تبجحه أعظم..
ثم لماذا لم تتكلم الملائكة عن طبيعتها وأفضليتها لتواجه على الأقل هذا التبجح والاستكبار والأنانية والإباء الذي سيطر بشكل ملموس على كيان ابليس.. لقد دللت الملائكة مرة اخرى على طبيعتها الخيرية وعلى قمة الطاعة لله تعالى وعدم التطاول على إرادته سبحانه او التدخل السلبي في امر تولى ربها عز وجل بنفسه تصحيح مساره وضبطه..
وهكذا يمكن القول بان الملائكة استطاعت ان تنجح في اختبارها بشقيه "القبول والرضا وعدم التعرض" ثم "الاستجابة الفورية وعدم الامتناع" ومن وثمة حصلت على ما مجموعه من العلامات مائة من مائة (100/100).. وهذه النسبة أهلت الملائكة كي تفوز بالقرب من العلي الحكيم وتتسلم كل الوظائف الراقية لخدمة ربهم جل وعلا بكل طاعة وخضوع وامتثال وخشوع حتى قال عنهم سبحانه "({لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون }) "التحريم٦" و({لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون})"الانبياء٢٧
وللدراسة بقية ستأتي بإذن الله تعالى فيما بعد
واللهَ نسأل التوفيق والسداد آمين
0 تعاليق:
إرسال تعليق