class='ads'>
السبت، أبريل 18

الجزء الثالث من دراسة: لماذا قالت الملائكة: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء

الجزء الثالث من دراسة:

لماذا قالت الملائكة:

~<(أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء)>~ 

~<(ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك؟)>~

 الدكتور عبد الرزاق المساوي



هذا غيض من فيض وقطرة من بحر.. ونحن لا نقصد الى الإطالة ولا نرغب في الإسهاب، وان كان الكلام كثيرا في الموضوع والآراء فيه عديدة والاجتهادات تترى حول هذا المشهد القصير من قصة أبينا آدم عليه السلام، والقارئ المتتبع لما جاء في كتب التفسير على مدى اكثر من الف وأربع مئة سنة فيما يخص هذا المشهد بالذات سيجد نفسه امام محاولات للفهم والتفسير متعددة ومختلفة بل ومتضاربة.. ولقد حاولنا تركيزها فيما نقلناه من نصوص تنتمي الى القديم والحديث.. وهذا ان دل على شيء فإنما يدل على مدى الحيرة التي انتابت كل من وقف بين يدي هذه الآيات من الخطاب القراني المعجز، ومن ثمة أصبحت بمثابة لغز محير حاول كل من تعامل معه حله وفكه فانهالت الأفكار والآراء وصبت التفسيرات والتأويلات واشتغلت آليات الاجتهاد، وجدَّ البحث في المأثورات والتنقيب في المكتوبات والإصغاء للمرويات والمسموعات.. (٢٢)
 ولا زال الأمر على ما كان وإن ادعى الكثيرون القراءات الجديدة والتحليلات المعاصرة وما إلى ذلك إلا أن وضع فهم الآيات لم يخرج عما قيل منذ قرون خلت، بل حتى وقتنا هذا من عام 1435هـ الموافق 2014م كل القنوات الفضائية والمحطات الأرضية وشبكات التواصل الاجتماعية والعنكبوتية وأشرطة الدروس والخطب الصوتية والمرئية، كل ذلك ما زال يدندن بما مضى من الأقوال وما هو مألوف من الكلام في موضوع "كيف علمت الملائكة أن هذا الخليفة سيفسد في الارض ويسفك الدماء؟" لا زال الجميع ينظرون إلى قوله تعالى: <(أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء)> بالعيون القديمة ويقرؤونها بالتأويلات العتيقة.. وبقي البحث عن الحل مستمرا، ولكن للأسف كان ولا زال البحث عن الحل، حل (ذاك اللغز) من خارج محيط اللغز نفسه، بعيدا عن السياق الذي ورد فيه، فكانت المفاتيح ليست من جنسه ولا من طبيعته مما أسفر عن انتاج كمية هائلة من النصوص الشارحة والمفسرة من خارج المنظومة الاسلامية نفسها اما في شكل قول يعتبر مأثورا او في شكل رأي يؤخذ مرجوحا او في إطار نقل عن عالم ثقة، او نسخ من كتاب مسطور او سماع من راو قديم او حاك مغمور.. كل هذه أشكال تعتبر مصادر اعتمدها المفسرون القدامى من سلف هذه الأمة رحمهم الله تعالى جميعا، ثم اتبعهم واقتدى بهم من جاء خلفا لهم، وكان الاعتماد على تلك المصادر اما لفهم بعض الأحداث المسرودة في النص القراني خصوصا في جانبه السردي.. وإما لتفكيك وتفصيل بعض ما أجمله الخطاب الرباني.. او لملء بعض الفراغات التي تتبدى للمتلقي المتأمل بين حلقات كل قصة من القصص القراني وذلك عن طريق التفكر، {فاقصص القصص لعلهم يتفكرون} (الأعراف:176)..
الا ان الامر لم يخل من مغامرات علمية تركت خلفها ركاما من التأويلات غير السليمة التي لا تستند على الأقل الى ما يدعم وجاهتها ويؤيد صحتها من نصوص صريحة وصحيحة خصوصا وان هذه القضايا المطروحة للنقاش غالبا ما تكون قضايا عقدية غيبية لا يؤخذ فيها الا بالدليل القطعي اما ما سواه فيعتبر على الهامش الذي قد يفيد او يستأنس به ما لم يُحْدث خدشا في الرؤية الإيمانية الصافية، وما لم يكن على حساب التصور الاسلامي الخالص، او انه يسهم في تغييب بعضا من الحقائق الربانية الأزلية، او يسهم في اخفاء معالم الأهداف المتوخاة من القصة القرآنية..


النص القصير الطويل:
==============

ان هذا النص القرآني الذي بين أيدينا على الرغم من قصره من حيث مكوناته، وعلى الرغم من صغره من حيث المساحة التي يشغلها والتركيب اللغوي الذي يتبدى فيه والرصف اللفظي الذي اتخذه الا انه ترك المتلقين له قراء ومستمعين ومتتبعين عبر القرون مبهورين مدهوشين مشدوهين واقفين وأحيانا واجمين كأنهم امام عالَم خارِج عن قدراتهم العقلية وإمكاناتهم المعرفية، وهو كذلك لانه عالم الغيب الذي لا يعلمه الا الله تعالى، انه عالم الملأ الأعلى العالم غير المنظور غير المدرك وبذلك ترك النص للمتلقين قديما وحديثا مجالات رحبة للتفكير فيه والتعالق معه، كما ترك مساحات للتأويل يمارسه المتلقون المتأملون محاولين قراءتها وملأ فراغاتها اعتمادا على واقعهم النفسي والاجتماعي والثقافي والعقدي، وأحيانا تكون تلك الفراغات او المساحات حافزا لمخيلة المتلقي/القاريء، الا انه يجب ان يحيطنا الحذر وان تشملنا الحيطة كي لا نقع في المحظور وإلا فلا داعي للاعتماد على المخيلة ووجب الاكتفاء بما هو مسطر.. اذ ان سكوت النص القرآني على بعض الأحداث لا يعقل أبدا ان يكون بدون هدف او بغير مغزى أبدا، وخصوصا عند سرده لهذه القصة بالذات وهي تصور بداية الخلق.. ولكن لماذا يا ترى لم يسرد القرآن الكريم تفاصيل ما كان من الخلق والمخلوقات حينها..؟ لماذا لم يبسط ذلك بسطا تاما كاملا حتى لا يحصل مثل ذلك التعدد القرائي..؟
لماذا مثلا لم يحك ما وقع من احداث وما جرى من وقائع وما كان من حياة قبل خلق آدم عليه السلام ولو فقط بالطريقة نفسها التي عرض بها قصة أب البشر.؟
هل فعلا غيَّب القران الكريم ردحا من الزمن مديدا، وتاريخا طويلا وعريضا من حياة بعض المخلوقات عده بعضهم بملايين السنين -كما يزعمون- ولم يأتِ على ذكره بالكامل كما يظنون..؟؟ فلو كان الامر كما يعتقدون فعلا لما سكت عنه القران الكريم، فمثلا لا يعقل ان يسكت عن فترة مهمة كانت قبل آدم عليه السلام بل ومؤثرة في كينونته ووجوده نظرا لكونه سيكون خليفة فيها فيما بعد..
هل يمكن ان يقف القران الكريم على كثير من التفاصيل في بعض قصصه ولا يذكر تفاصيل اخرى على الرغم من انه يمكن ان تكون أهم ؟؟ بل حتى إن اقرب الحلقات الى حلقة خلق آدم في سلسلة بدء الخليقة والتي هي حلقة خلق الملائكة، وحلقة خلق ابليس لا نجد في القران الكريم تفصيلا عنهما ولا عن كيفية وجودهما او مراحل خلقهما ولا حتى عن الكون الذي سوف يسخر لخدمة هذا الذي سيصبح مستخلفا فيه..
وهذا يرجع في تقديرنا -والله اعلم بالصواب- الى ان القران الكريم يريد ان يسلط الضوء على ما له علاقة بالحياة الآدمية من البداية الى النهاية مرورا بما يفيد الانسان من محطات المخلوقات الاخرى، وهي مجرد محطات تم فيها التقاطع مع قصة آدم عليه السلام.. فآدم هو المستهدف بالخلافة في الارض، ومن ثمة فكل ما يمكن ان يؤثت لهذه الخلافة هو الذي يحتاج الى الاهتمام به ورعايته وذكره والوقوف على حيثياته ووصفه وتشخيصه.. ومن ثمة فسيكون هو الأهم في الذكر الحكيم، أما ما سواه فمسكوت عنه لكونه لا يحمل العبرة التي منه ترتجى، ولا العظة التي بها ينتفع <(لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)> (يوسف١١١) ولا الأحسنية التي بها نزل <(نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن)> (يوسف ٢)
لذلك عندما أتى القران الكريم على ذكر الملائكة أخذ من حياتهم او من قصتهم ما له علاقة بحياة وقصة آدم عليه السلام ووجوده وطبيعة علاقاته او بمصيره وما سيؤول اليه.. وعندما حدثنا كذلك عن الجن في شخص إبليس رصد لنا ما يربطه بآدم عليه السلام، وبيَّن صلات الوصل بينهما ونقاط التقاطع..
وهكذا كان حديث القران الكريم عن بعض مكونات خلق الجن ولم يتحدث عن طبيعتهم ولا عن طبائعهم ولا عن عيشهم ولا عن معيشتهم ولا عن خصائصهم ولا عن مقوماتهم ولا عن أسس حياتهم ولا عن تفاصيلها او جزئياتها .. 
فالملائكة نعرف انهم خلقوا من قبس من نور كما ورد في الحديث الصحيح، والجان خلق من مارج من نار كما جاء في القران الكريم، وآدم خلق من حفنة من طين كما وصف لنا رب العالمين، وبعد ذلك تأتي خيوط التواصل والتقاطع بينهم وترسم علامات التلاقي والافتراق، وتحدد طبائع ووظائف كل مخلوق في علاقاته بالآخر من خلال ما سطره المولى جل وعلا في القصة كلها.. 
  

         ********************* فتنة واحدة بوجوه متعددة.. *********************
        ================

لقد خلق الله سبحانه الملائكة من نور كما جاء عن الصادق المصدوق في الحديث الشريف الذي روي عن السيدة عائشة رضي الله عنها حين قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"خُلِقت الملائكة من نور، وخلق الجانُّ من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم" (٢٣).. كان هذا فعل الرب جل وعلا وكانت هذه إرادته سبحانه، فكان له عز وجل ما أراد، وله سبحانه في خلقه شؤون.. خلق سبحانه مخلوقاته الثلاث من مصادر مختلفة بعضهم من نور وبعضهم من نار والأخير من طين، وأعطى لكل مخلوق شكله المناسب له.. ثم بقيت طبيعة حياة كل مخلوق كيف ستتجلى، وبقي شكل علاقته بخالقه كيف ستكون، وكيف يمكن ان يعيش ويحيا وعلى اي شكل سيتبدى وجوده ووفق أي منهاج سيسير، ولسوف تتحدد هذه القضايا من خلال اختبار كل مخلوق على حده بناء على اختبارات ربانية تُجرى لهم، وامتحانات إلهية تُجرى عليهم كي تَبْرُزَ مؤهلاتُ كل مخلوق الروحية، وخصائصه النفسية، ومقوماته الفكرية، ومستوى علاقته بأوامر ربه الذي خلقه وسيختبره.. وسوف تأخذ هذه الاختبارات شكل الفتن يختبرون بها، فإما أن تبقى كذلك -حسب تعامل المخلوق معها- فتصير عليه نقمة، وأما أن تحول الى نعمة، وذلك -كما ألمحنا سلفا- حسب الطريقة -طاعة أو رفضا- التي سيتم بها التعامل مع أوامر الخالق سبحانه ونواهيه وإقراراته..
ومنهجية الاختبارات ستكون على شكل "افعل أو لا تفعل" ويمكن إضافة عنصر آخر إليها وهو الإقرار بحيث ينتفي القول بـ"اِفعل أو لا تفعل" ليكون "الإقرار بالشيء" كالإقرار بوجود ابليس ضمن الملائكة دون أن يظهر على أن هناك أمرا بذلك أو نهيا على مستوى النص في الخطاب القرآني، ولا ذكرا ولا تحذيرا.. 
ثم إن منهجية الاختبارات ستكون في شكل دورتين اثنتين -اذا نحن استعرنا هذه المصطلحات من العلوم التربوية فنقرأ هذا الحدث قراءة تعليمية تربوية..- احدى هاتين الدورتين رئيسة، وأما الثانية فيمكن ان تسمى دورة استداركية..


وللدراسة بقية ستأتي بإذن الله تعالى فيما بعد
واللهَ نسأل التوفيق والسداد آمين

بقلم الدكتور عبد الرزاق المساوي

0 تعاليق:

إرسال تعليق