class='ads'>
الخميس، أبريل 16

الجزء الثاني من دراسة: لماذا قالت الملائكة: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء


الجزء الثاني من دراسة:

لماذا قالت الملائكة:

~<(أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء)>~ 

     ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك؟

 

الدكتور عبد الرزاق المساوي

  ومن قصة آدم عليه السلام ما ظُلِمَ..

وتأتي قصة آدم عليه السلام بشكل عام أول قصة قرآنية تحيط بها المشكلات من جميع الجهات وعلى الخصوص تلك الحلقة التي جاءت في الآية الثلاثين من سورة البقرة.. فلقد كانت أكثر القصص القرآني عرضة للتفسير الخرافي والتحليل الأسطوري والعرض الحكواتي.. حتى أمسى القاريء للقرآن الكريم في سرده القصصي لأحداث بدء الخليقة لا يستطيع أن يتخلص من كثير من الأفكار التي علقت بأحداث القصة والتي جاءت روايتها عن رجال ثقات استنادا الى مصادر كتابية تم التعامل معها بمرونة زادت عن الحد حتى انقلبت الى الضد.. مما زاد القصة القرآنية في حلقتها الآدمية غموضا ولفا في المجهول كما زادها إيغالا في الأسطورية.. وكيف لا وهي قصة بدء الخليقة، فكلما بعدت القصة في الزمان كلما أحاطها الناس بهالة من الأفكار العجائبية والآراء الأسطورية.. وغدا المرء المتلقي (المسلم وغير المسلم) لا يفرق في قراءتها وفهمها بين ما هو حق وواقع، وأحداث ووقائع، وحقيقة وأمر ساطع، وما هو خيال وأسطورة وباطل، أي أنه لا يفرق بين ما يتصل بالقص الالٰهي الرباني الموثق والمشهود له بالصدق ولا يحتمل الزيادة والكذب، وما له علاقة بالحكي الإنساني والتفكير البشري والتواطوء الاجتماعي.. بين ما هو وحي يوحي، وما هو رأي ينطق عن الهوى.. بين ما هو غاية في الأهمية وما هو وسيلة للتسلية.. ومن ثمة اختلطت الأمور على متلقي الخطاب القرآني في شقه السرد قصصي حتى غدا بعضهم يطعن في القراٰن برمته ويشكك في مصداقيته.. مما دفع مجموعة من العلماء الى التصدي لما اصطلح على تسميته بالإسرائيليات ومحاولة نفسها وإعطاء البديل لفهم تلك النصوص السرد قصصية.. لكن بعضهم غالى في اجتهاده من أجل إعطاء فهم جديد لما كثر حوله الحديث وللأسف الشديد التبس الامر حتى على بعض أولئك الذين يعتبرون من أهل العلم والفضل قديمهم وحديثها..(١٠)
 
لقد أثيرت جملة من المشكلات حول القصص القراني بشكل عام من حيث الشكل ومن حيث المضمون، الا انه كان لقصة آدم عليه السلام القسط الأوفر والجزء الأوفى منها، حتى انها أسالت مداد أقلام كثيرة قديما وحديثا.. وحيرت بطبيعتها عقولا عديدة، بل وأربكت فهم النصوص القرانية المتعلقة بالقصة ككل وما يرتبط بها هي خصوصا وعلى الأخص تلك الحلقة العجيبة أحداثها، او تلك اللقطة الهالة حواراتها، او قل ذلك المشهد الرائع تصويره.. والذي أتى من مشكاة الخطاب القراني في بآيات سورة البقرة مبنيا على صرح اللغة العربي الحية وعلى محمل البلاغة الراقية في صورة متحركة.. انه مشهد مفعم بالحركة، المشهد الحي الممتلئ بالحيوية، وهو يصور وأقول يصور وأكرر "يصور" بالمفهوم المعاصر للتصوير لحظة من اعظم اللحظات التاريخية، لحظة الحوار العلوي بين رب العالمين سبحانه وعباده الطاءعين من ملائكته المقربين.. ولقد كانت لحظة مثيرة جداً اثارة مفيدة من خلال رسم صورة قمة التسامح في الحوار بين الخالق والمخلوق.. ومعبرة تعبيرا حيا عن السمو والعلو والنزاهة والكرامة في مناقشة قضية مصيرية وجوهرية بين صاحبها وواضعها سبحانه وتعالى في علوه وبعض من خلقه الذين من المفروض بداهة ان لا يناقشوا ولا يحاوروا بل يؤمروا ويسمعوا ويطيعوا وينفذوا.. انها لحظة مشهدية حبلى بالمعاني الجليلة والدلالات العظيمة الا انها تعرضت للأسف الشديد لسوء فهم وتدبير وإفراط في التأويل جعلها عوض ان تكون للعبرة والعظمة والدروس المفيدة، ومعلمة من معالم التربية القرانية في مسيرة الحياة البشرية، أضحت مثار نقاش عقيم وسجال سقيم لا طائل تحته وجدال مربك وتأويلات لا فائدة ترجى من أثارتها.. وما أظن ان الامر كان يحتاج الى كل ما أثير من ضجيج فكري وصخب علمي وهجر فكري وصل عند بعضنا -غفر الله لنا ولهم-الى حد التقاضي..(١١)
ولا بأس هنا -وقبل اي قراءة للمشهد- من التذكير بالآيات القرانية الكريمة التي ترسم معالم ذاك المشهد العلوي العظيم وتقوم بتأطير أحداثه.. ثم ننقل بعض ما جاء في تفسيرها بعض ما ورد في تأويلها والاجتهاد في فهمها، وتوضيح حلقاتها كما وردت ببعض كتب التفسير المعتمدة قديمها وحديثها، كي نقف على ما هو كائن من القيل اولا ثم بعد ذلك نحاول قراءة الآيات القرانية تلك بالشكل الذي نقترحه ونراه مناسبا لفهمها الفهم المنطقي والمعقول والمتماشي مع التصور الاسلامي.. والله اسأل التوفيق والسداد انه سميع مجيب:
يقول الله تعالى في الآية الثلاثين من سورة البقرة بعد:
 
                                                أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
                                                   بسم الله الرحمن الرحيم
  
({وَإِذْ قَالَ رَبُّـكَ لِلـْمَلائِكَـةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَـجْعَلُ فِيـهَا مَنْ يُـفْسِدُ فِيـهَا وَيَـسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَـحْنُ نُسـبِّـحُ بِـحَمْـدِكَ وَنُقدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْـلَـمُ مَا لا تَـعْلَـمُونَ})(البقرة الآية 30)
 
 

:وإنما لكل متلق ما نوى

 

إن أي نص أو خطاب كيفما كانت سيماته، وبأي سنن كان إنجازه، وكيفما كان تجليه يعتبر رسالة يلقيها المرسل بغية تحقيق مجموعة من الأهداف والمرامي والأغراض.. تلك الأهداف والمرامي والأغراض التي تبقى رهينة نوعية وشكل التلقي الذي يمارسه المتلقي المقصود أو المتلقي المفترض (الأول اذا كانت الرسالة الملقاة تهدف معينا بنفسه ومحددا بذاته سلفا من قبل الملقي) والمتلقي المفترض (هو ذلك الذي يمكن أن يتواصل مع الرسالة بشكل عادي عفوي كمهتم أو حتى كفضولي..) وإذا كان النص أو الخطاب اللغوي حمال أوجه أو يتسع لقراءات متعددة فإنه يساهم في تعدد المتلقين واختلاف تلقيهم بمعنى أن لكل متلق استقباله المتفرد وقراءته الخاصة به وتعامله المميز والمتميز للمُلْقى/الرسالة.. وبذلك يصبح لكل متلق للرسالة ما نوى منها أو ما رآه فيها أو ما تجلى له فيها بفعل احتكاكه المستمر بها وخصوصا إذا كانت الرسالة مقدسة.. إلا أنه لا يمكن بأي حال من الأحوال أن نعتبر كل القراءات وكل التعاملات القرائية صائبة أو جيدة أو لا بأس بها أو على الأقل مقبولة.. وإنما هي قراءات قد تتعدد وتعاملات قد تختلف وممارسات تواصلية قد تتنوع ورؤى قد تجتمع وقد تتفرق.. وكل قراءة أو تعامل تواصلي أو ممارسة قرائية أو تعالق مع النص/الملقى/الرسالة قد يتميز بخصائصه ويتحلى بمميزاته ولكن ليس من الضروري أن يجمع ذلك التعامل التواصلي الفضل القرائي كله فقد يكون بين بين وقد يكون لا شيء.. والمهم هو ما يصبو إليه وما يهفو إلى تحقيقه، هل فعلا نجح في تحقيقه والوصول إلى مبتغاه فيه أم لا..؟؟ "فالقراءة الجيدة ليست قراءة القاريء المتوسط وإنما هي القراءة التي تحقق أحسن النتائج"(١٢)..
:ولنأخذ الآن نماذج من القراءات التفسيرية للآية القرآنية الكريمة، وإن كانت في مجموعها لا تخرج عن مسار موحد لتناسل القراءات بعضها من بعض
 

({قَالُوا أَتَـجْعَلُ فِيـهَا مَنْ يُـفْسِدُ فِيـهَا وَيَـسْفِكُ الدِّمَاءَ})

 
 
يقول محمد بن جرير الطربي المتوفى سنة ٣١٠هـ رحمه الله:(١٣)
==================================== 
(....) وأما وصف الملائكة من وصفت - في استخبارها ربها عنه - بالفساد في الأرض وسفك الدماء ، فغير مستحيل فيه ما روي عن ابن عباس وابن مسعود من القول الذي رواه السدي ، ووافقهما عليه قتادة من التأويل : وهو أن الله جل ثناؤه أخبرهم أنه جاعل في الأرض خليفة تكون له ذرية يفعلون كذا وكذا ، فقالوا : " أتجعل فيها من يفسد فيها " على ما وصفت من الاستخبار .
..... . وغير فاسد أيضا ما رواه الضحاك عن ابن عباس ، وتابعه عليه الربيع بن أنس ، من أن الملائكة قالت ذلك لما كان عندها من علم سكان الأرض - قبل آدم - من الجن ، فقالت لربها : " أجاعل فيها أنت مثلهم من الخلق يفعلون مثل الذي كانوا يفعلون " ؟ على وجه الاستعلام منهم لربهم ، لا على وجه الإيجاب أن ذلك كائن كذلك ، فيكون ذلك منها إخبارا عما لم تطلع عليه من علم الغيب .(.......)
 
 
وجاء في "تفسير النكت والعيون" للماوردي ٤٥٠ هـ رحمة الله عليه:(١٤)
 ======================================== 
قوله عز وجل: "قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء" .. وهذا جواب من الملائكة حين اخبرهم انه جاعل في الارض خليفة، واختلفوا في جوابهم هذا، هل هو على طريق الاستفهام او على طريق الإيجاب؟ على وجهين احدهما: انهم قالوه استفهاما واستخبارا حين قال لهم: اني جاعل في الارض خليفة، فقالوا: يا ربنا اعْلِمْنا أجاعل انت في الارض من يفسد فيها ويسفك الدماء؟ فأجابهم اني اعلم ما لا تعلمون، ولم يخبرهم. والثاني: انه إيجاب، وان خرجت الألف مخرج الاستفهام، كما قال جرير:
ألستم خير من ركب المطايا***** وأندى العلمين بطون راح 
وعلى هذا الوجه في جوابهم بذلك قولان: احدهما انهم قالوه ظنا وتوهما، لأنهم رأوا الجن من قبلهم، قد أفسدوا في الأرض، وسفكوا الدماء، فتصوروا انه ان استخلف استخلف في الارض من يفسدون فيها ويسفكون الدماء، وقد أنعمت عليهم واستخلفتهم فيها فقال: اني اعلم ما لا تعلمون.. والثاني: انهم قالوه تعجبوا من استخلافه لهم اي كيف تستخلفهم في الارض وقد علمت انهم يفسدون فيها ويسفكون الدماء، فقال: اني اعلم ما لا تعلمون..
 
وجاء في الوسيط لابي الحسن النيسابوري ٤٦٨ هـ رحمه الله تعالى:(١٥)
========================================
قوله: " اني جاعل في الارض خليفة": الخليفة الذي يخلف الذاهب، اي يجيء بعده، يقال: خلف فلان مكان فلان، (...) وأراد بالخليفة ادم في قول جميع المفسرين، جعله خليفة عن الملائكة الذين سكنوا الارض بعد الجن، وذلك ان الله خلق السماء والأرض وخلق الملائكة والجن فاسكن الملائكة السماء واسكن الجن الارض، فعبدوا دهرا طويلا في الارض ثم ظهر فيهم الحسد والبغي فاقتتلوا وأفسدوا، فبعث الله اليهم جندا من الملائكة يقال لهم: الجن، رأسهم ابليس، وهم خزان الجنان اشتق لهم اسم من الجنة فهبطوا الى الارض وطردوا الجن عن وجوهها الى شعوب الجبال وجزائر البحور وسكنوا الارض..
وقوله: "قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء" قال السدي: قال ابن عباس: "قال الله تعالى لهم اني خالق بشرا وأنهم يتحاسدون ويقتل بعضهم بعضا، فلذلك قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها... وقال اكثر المفسرين: انهم قاسوا على الغائب، فقالوا: أتجعل فيها من يفسد فيها كما فعل بنو الجن...
 
وفي تفسير معالم التنزيل للبغوي المتوفى سنة ٥١٦ هـ رحمه الله:(١٦)
======================================= 
(....) وأعطى الله ابليس ملك الارض وملك السماء الدنيا وخزانة الجنة، فكان يعبد الله تارة في الارض، وتارة في السماء، وتارة في الجنة،فدخله العجب، فقال في نفسه: ما أعطاني الله هذا الملك الا لآني أكرم الملائكة عليه، فقال الله تعالى له ولجنته: "اني جاعل (خالق) في الارض خليفة ( اي بدلا منكم ورافعكم الي، فكرهوا ذلك لأنهم كانوا أهون الملائكة عبادة، والمراد بالخليفة ههنا آدم، سماه خليفة لانه خلف الجن اي جاء بعدهم، وقيل لانه يخلفه غيره، والصحيح انه خليفة الله في أرضه لإقامة أحكامه، وتنفيذ وصاياه) قالوا: أتجعل فيها من يفسد فيها( بالمعاصي) ويسفك الدماء بغير حق، اي كما فعل بنو النجف قاسوا الشاهد على الغائب، وإلا فهم ما كانوا يعلمون الغيب...
 
وفي تفسير زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي ٥٩٧ هـ رحمه الله:(١٧)
=========================================== 
(...) انهم سألوا عن حال أنفسهم، فتقديري: اتجعل فيها من يفسد فيها ونحن نسبح بحمدك ام لا؟ وهل علمت الملائكة انهم يفسدون بتوقيفه من الله تعالى، ام انهم قاسوا على حال من قبلهم؟ فيه قولان، احدهما انه توقيف من الله تعالى، قاله ابن مسعود وابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة وابن زيد وابن قتيبة، وروى السدي عن أشياخه انهم قالوا: ربنا وما يكون ذلك الخليفة؟ قال يكون له ذرية يفسدون في الارض ويتحاسدون، ويقتل بعضهم بعضا، فقالوا: اتجعل فيها من يفسد فيها... والثاني: انهم قاسوه على أحوال من سلف قبل آدم، روي نحو هذا عن ابن عباس وأبي العلية ومقاتل....
 
وجاء في الجامع لأحكام القرآن للقرطبي المتوفى عام ٦١٧ هـ رحمه الله:(١٨)
 ===========================================
قوله تعالى : قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها قد علمنا قطعا أن الملائكة لا تعلم إلا ما أعلمت ولا تسبق بالقول ، وذلك عام في جميع الملائكة ; لأن قوله : لا يسبقونه بالقول خرج على جهة المدح لهم ، فكيف قالوا : " أتجعل فيها من يفسد فيها " ؟ فقيل : المعنى أنهم لما سمعوا لفظ خليفة فهموا أن في بني آدم من يفسد; إذ الخليفة المقصود منه الإصلاح وترك الفساد ، لكن عمموا الحكم على الجميع بالمعصية ، فبين الرب تعالى أن فيهم من يفسد ومن لا يفسد فقال تطييبا لقلوبهم : إني أعلم وحقق ذلك بأن علم آدم الأسماء ، وكشف لهم عن مكنون علمه . وقيل : إن الملائكة قد رأت وعلمت ما كان من إفساد الجن وسفكهم الدماء . وذلك لأن الأرض كان فيها الجن قبل خلق آدم فأفسدوا وسفكوا الدماء ، فبعث الله إليهم إبليس في جند من الملائكة فقتلهم وألحقهم بالبحار ورءوس الجبال ، فمن حينئذ دخلته العزة . فجاء قولهم : أتجعل فيها على جهة الاستفهام المحض : هل هذا الخليفة على طريقة من تقدم من الجن أم لا ؟ قال أحمد بن يحيى ثعلب . وقال ابن زيد وغيره : إن الله تعالى أعلمهم أن الخليفة سيكون من ذريته قوم يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء ، فقالوا لذلك هذه المقالة ، إما على طريق التعجب من استخلاف الله من يعصيه أو من عصيان الله من يستخلفه في أرضه وينعم عليه بذلك ، وإما على طريق الاستعظام والإكبار للفصلين جميعا : الاستخلاف والعصيان . وقال قتادة : كان الله أعلمهم أنه إذا جعل في الأرض خلقا أفسدوا وسفكوا الدماء ، فسألوا حين قال تعالى : إني جاعل في الأرض خليفة أهو الذي أعلمهم أم غيره .
وهذا قول حسن ، رواه عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر عن قتادة في قوله أتجعل فيها من يفسد فيها قال : كان الله أعلمهم أنه إذا كان في الأرض خلق أفسدوا فيها وسفكوا الدماء ، فلذلك قالوا : أتجعل فيها من يفسد فيها . وفي الكلام حذف على مذهبه ، والمعنى أني جاعل في الأرض خليفة يفعل كذا ويفعل كذا ، فقالوا : أتجعل فيها الذي أعلمتناه أم غيره ؟ والقول الأول أيضا حسن جدا ; لأن فيه استخراج العلم واستنباطه من مقتضى الألفاظ وذلك لا يكون إلا من العلماء ، وما بين القولين حسن ، فتأمله ..
 
وفي تفسير القران العظيم لابن كثير رحمه الله توفي عام ٧٧٤ هـ:(١٩)
======================================= 
قول الملائكة : ( أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ) فإنهم إنما أرادوا أن من هذا الجنس من يفعل ذلك ، وكأنهم علموا ذلك بعلم خاص ، أو بما فهموه من الطبيعة البشرية فإنه أخبرهم أنه يخلق هذا الصنف من صلصال من حمإ مسنون [ أو فهموا من الخليفة أنه الذي يفصل بين الناس فيما يقع بينهم من المظالم ، ويرد عنهم المحارم والمآثم ، قاله القرطبي ] أو أنهم قاسوهم على من سبق.....
 
وفي ظلال القرآن لسيد قطب رحمه الله أعدم عام ١٩٦٤م:(٢٠)
=================================== 
قالوا:أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء، ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك؟). . 
ويوحي قول الملائكة هذا بأنه كان لديهم من شواهد الحال, أو من تجارب سابقة في الأرض، أو من إلهام البصيرة، ما يكشف لهم عن شيء من فطرة هذا المخلوق، أو من مقتضيات حياته على الأرض، وما يجعلهم يعرفون أو يتوقعون أنه سيفسد في الأرض , وأنه سيسفك الدماء .
 
ومن كتاب التحرير والتنوير للطاهر بن عاشور(توفي في ١٩٧٣م):(٢١)
======================================= 
وإنما ظنوا هذا الظن بهذا المخلوق من جهة ما استشعروه من صفات هذا المخلوق المستخلف بإدراكهم النوراني لهيئة تكوينه الجسدية والعقلية والنطقية إما بوصف الله لهم هذا الخليفة أو برؤيتهم صورة تركيبه قبل نفخ الروح فيه وبعده ، والأظهر أنهم رأوه بعد نفخ الروح فيه فعلموا أنه تركيب يستطيع صاحبه أن يخرج عن الجبلة إلى الاكتساب ، وعن الامتثال إلى العصيان ، فإن العقل يشتمل على شاهية وغاضبة وعاقلة ومن مجموعها ومجموع بعضها تحصل تراكيب من التفكير نافعة وضارة ، ثم إن القدرة التي في الجوارح تستطيع تنفيذ كل ما يخطر للعقل وقواه أن يفعله ، ثم إن النطق يستطيع إظهار خلاف الواقع وترويج الباطل ، فيكون من أحوال ذلك فساد كبير ومن أحواله أيضا صلاح عظيم ، وإن طبيعة استخدام ذي القوة لقواه قاضية بأنه سيأتي بكل ما تصلح له هذه القوى خيرها وشرها ، فيحصل فعل مختلط من [ص: 403 ] صالح وسيئ ، ومجرد مشاهدة الملائكة لهذا المخلوق العجيب المراد جعله خليفة في الأرض كاف في إحاطتهم بما يشتمل عليه من عجائب الصفات على نحو ما سيظهر منها في الخارج ؛ لأن مداركهم غاية في السمو لسلامتها من كدرات المادة ، وإذا كان أفراد البشر يتفاوتون في الشعور بالخفيات ، وفي توجه نورانية النفوس إلى المعلومات ، وفي التوسم والتفرس في الذوات بمقدار تفاوتهم في صفات النفس جبلية واكتسابية ولدنية التي أعلاها النبوة ، فما ظنك بالنفوس الملكية البحتة . 
وفي هذا ما يغنيك عما تكلف له بعض المفسرين من وجه اطلاع الملائكة على صفات الإنسان قبل بدوها منه من توقيف واطلاع على ما في اللوح أي علم الله ، أو قياس على أمة تقدمت وانقرضت ، أو قياس على الوحوش المفترسة إذ كانت قد وجدت على الأرض قبل خلق آدم كما في سفر التكوين من التوراة . وبه أيضا تعلم أن حكم الملائكة هذا على ما يتوقع هذا الخلق من البشر لم يلاحظ فيه واحد دون آخر ، لأنه حكم عليهم قبل صدور الأفعال منهم ، وإنما هو حكم بما يصلحون له بالقوة ، فلا يدل ذلك على أن حكمهم هذا على بني آدم دون آدم حيث لم يفسد ، لأن في هذا القول غفلة
عما ذكرناه من البيان . انتهى قوله رحمه الله. وبه تنتهي أقوال العلماء رحمة الله عليهم جميعا..
وللدراسة بقية ستأتي بإذن الله تعالى فيما بعد
واللهَ نسأل التوفيق والسداد آمين

بقلم الدكتور عبد الرزاق المساوي



0 تعاليق:

إرسال تعليق