class='ads'>
الخميس، أبريل 16

الجزءالأول من دراسة: لماذا قالت الملائكة: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء

الجزء الأول من:

ء><(في رحاب مشاهد قصة الملائكة وإبليس وآدم عليه السلام)><ء


:لماذا قالت الملائكة

ء<(أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء

ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك)>ء

 


الدكتور عبدالرزاق الـمساوي


على سبيل التمهيد:

لقد كان الاهتمام العربي على مر العصور منذ بداية التدوين منصبا بشكل كبير وبدرجة لا مثيل لها في تدوينه للآداب في محيطيها الجاهلي والإسلامي، وفي دراساته للكلمة العربية وتاريخها ومنتوجها، انصب الاهتمام على " الشعر" الجنس الأدبي الذي كان يحظى بعناية فائقة على مستوى الرصد والتنقيب والمتابعة والتصفية والتحري والتدقيق والجمع والتجميع والاستشهاد والشرح والدراسة والتحليل والبحث والنقد والتاريخ والمقارنة والنشر والترويج...
ويبدو هذا كله جليا وواضحا من خلال ما تزخر به المكتبة العربية من التصانيف المختلفة المتتبعة لكل ما هو شعري الى درجة العودة به -تنقيبا في نظرهم- الى أعماق التاريخ بل الى جذور التاريخ الموغلة في القدم حين التمسه بعضهم في الحقبة التي كان فيها آدم عليه السلام ورووا على لسانه شعرا وكذلك على لسان بعض الأنبياء عليهم السلام.. وهذا كان منهم لفرط حبهم لهذا النوع من الإبداع وتشبثهم بأصالتهم فيه، وحبا في تأسيس الجديد انطلاقا من تأصيل القديم.. 
وكل هذا كان نتيجة طبعية لحب العربي وشغفه بذاك الجنس الأدبي منذ زمن الجاهلية الأولى حتى ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيهم كما رُوي في بعض الآثار " لا تدع العرب الشعر حتى تدع الإبل الحنين"(١)

لقد كانت العرب تعتز بالشعر وتفخر، وتتباهى به وتتفاخر، وتعتبره أساس العلوم عندها، وركاز التاريخ لديها، والجامع لكل ما يميزها عن غيرها، والسجل المدون لكل أحداثها، والوسيلة الإعلامية المروجة لكل خصائصها... فهو كما ورد عن ابن عباس رضي الله عنه:"الشعر ديوان العرب"(٢) وكما جاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه من انه -اي الشعر وذلك من كثرة اهتمامها به- كان "علم قوم لم يكن لهم علم أصح منه"(٣) او كما قال ابن سلام الجمحي: "كان ديوان علمهم ومنتهى حكمهم به يأخذون واليه يصيرون"(٤) بل ان عبدالله بن قتيبة يذهب الى ان الله سبحانه وتعالى: "أقامه -اي الشعر- مقام الكتاب لغيرها وجعله لعلومها مستودعاً ولآدابها حافظا ولأنسابها مقيدا، ولأخبارها ديوانا لا يرث على الدهر ولا يبيد على مر الزمان"(٥).. هذه الأقوال المأثورة والروايات المشهورة في كتب الأدب واللغة وجدت طريقا واسعة الى القلوب والعقول والفكر والوجدان لما تصوره بدقة متناهية من الشمولية والإحاطة المركزة ما يعزز من مكانة هذا الجنس من القول بما يحتويه ويزخر به ويجسده من سجل حافل بتراث عربي أصيل وموروث حضاري عريق على الصعيدين الفكري والأدبي يخص الأمة العربية والإسلامية ويميزها كما تميزت الأمة اليونانية بحب الحكمة والتعبير عنها نظريا وأدبيا..
هكذا كانت العرب تنظر الى الشعر حتى أضحى الجنس الأدبي الطاغي على الساحة أكثر من غيره.. وبقي الاهتمام بما يقابل الشعر عادة على مستوى الأدبية والذي هو النثر العربي غير بارز كما يجب، ولا واضحة معالمه كما حصل لغريمه اذا صح التعبير، بحيث كان الاهتمام بالتجليات السردية عند القدماء اقل بكثير حتى ان بعض الدارسين يقول: "ان التجليات السردية العربية المختلفة أدرجت بصورة او باخرى ضمن النثر العربي او النثر الفني في العصر الحديث تخصيصا ولذلك غابت خصوصية "السرد" ولم يتم تناوله في ذاته، او من حيث طبيعته او أنواعه او أشكاله.. وبقيت تلك التجليات مهملة، ومقصاة بالقياس الى انواع نثرية اخرى.."٦)
فإذا كانت بعض الأبحاث والدراسات الحديثة قد اهتمت بقضية النثر العربي -على قلتها- في رصدها لبعض الأنواع التي يتجلى من خلالها كالحكايات والقصص والأخبار والمسامرات والمقامات..الخ فإنها لم تتناولها في إطار عام يؤطرها ويجمعها ويصنفها جنسا أدبيا مستقلا يأخذ موقعه ضمن أجناس الآداب العربية الاخرى فيكون بذلك ذا أهمية متميزة يُنظٓرُ اليه في التراث العربي على انه جنس يُهٓيْكِلُ مجموعة من الأنواع الأدبية التي تنطوي تحت لوائه.. ثم ان هذا الاهتمام بالنثر الأدبي العربي على الرغم من ضحالته، فقد أبعد نفسه عن ثروة سردية كبيرة وهي "السرد القصصي في الخطاب القرآني".. ولقد كان من الممكن ان يساهم في إغناء الدرس الأدبي وان كانوا -للأسف- لا يعتبرونه من اختصاصاتهم بل يعدونه ينتمي الى الدرس الديني بالمفهوم الضيق للدين.. ولو انهم درسوه أدبيا لأغنى الدرس الأدبي -كما أشرنا- على كل المستويات اي من خلال تشكيلاته وتجلياته وطريقته وكيفيته ومضامينه وأهدافه.. إنه الدرس الديني الذي يزرع الروح في الدرس الأدبي، ينميه ويجمله ويجعله حاملا لقبس نوراني مضئ يميزه عن كل ما جادت به القرائح البشرية من آداب..
ان السرد القصصي قضية عظيمة في بنية الخطاب القرآني الذي يعتبر في مجمله قمة ادبية ولغوية معجزة، ان السرد القصصي فيه يعدُّ ركيزة من ركائز التربية الاسلامية وأسّاً من أسس القران الكريم ودعامة من دعائم الخطاب الرباني العظيم الموجه لكل الناس بدون استثناء من العالمين.. بل انه يعتبر التصوير الحقيقي بوسائل تعبيرية ذات طابع سردي، و بأدوات لغوية ذات سمات جمالية تعتمد مقومات التصوير بالريشة البلاغية الحية، والألوان البيانية القزحية، والتقديم التشخيصي والانموذجي كأنك امام احداث ووقائع وشخصيات تمر بين يديك بكل انسيابية وتترك بصماتها على مخيلتك وتؤثر في مسار حياتك.. ثم ان هذا السرد القصصي هو الحديث الواقعي والإنساني والإجمالي لكل موضوعات القران الكريم ولكل مكونات الخطاب الرباني العظيم.. فهو يرصد آهم وابلغ وأعمق ما يطرحه ذلك الكتاب الذي لا ريب فيه.. ويشخص موضوعاته وما تناولته من قضايا عقدية وسلوكية.. فكرية ومعرفية.. نظرية وتطبيقية.. انها سرد قصص تأخذ لغته الربانية وفصاحته الإلهية وبيانه المعجز بتلابيب الحياة البشرية في مسارها الطويل من المهد الى اللحد، من بداية الخلق الى نهاية الجزاء..(٧)ء
كما يعتبر السرد القصصي في الخطاب القرآني دليلا حيا على ان كل ما أتى به الإسلام من شرعة ومناهج ومن فكر وعلوم، وثقافة وحضارة، بناء على ما سبق ذكره، يتميز بالواقعية ولا يرتبط باي حال من الأحوال بالخيال او احلام المدينة الفاضلة.. كما وانه يتميز بالإنسانية والواقعية، ولا يرتبط باي حال من الأحوال بما فوق الطبيعة البشرية.. فما أتى به الاسلام من قضايا لا تخرج عن ان تكون قضايا قابلة للتطبيق الحي والترجمة الميسرة الى حركات حية وحيوية في عالم المخلوقات.. وها هي كوكبة الأنبياء وقافلة الرسل وجماعات الصالحين وكذا أصناف البشر أجمعين في كل زمان ومكان تقدم الدليل تلو الدليل على ذلك من خلال ما سطره كتاب الله عز وجل عنهم وما أثبته التاريخ الصحيح مصدقا لما جاء في هذا الكتاب العظيم.. ونحن هنا لا نعبأ بما يروج له بعض المغرضين والمارقين والعابثين بالحقائق من اجل تحقيق أغراضهم الزائلة..(٨)ء
ولأهمية هذه القضية وفاعليتها في التأثير على المتلقي نجد السرد القصصي بكل مقوماته السردية ومكوناته اللغوية وخصائصه الجمالية وتشكيلاتها البلاغية يشغل مكاناً واسعا وحيزا كبيرا وفضاء متراميا من جغرافية النص القرآني الجليل.. ويتحدد عبر خريطته الشاسعة في فضاءات عديدة ومتنوعة ومختلفة وبأشكال متغايرة ومتباينة من أول سورة الى اخر سورة.. ولكن هذا السرد القصصي بكل ما يحمل من معاني رائعة ودلالات راقية.. وموضوعات جميلة وفائقة.. وبكل ما يشكله من تصوير رائع موفق للمرامي القراٰنية والغايات الاسلامية والأهداف الإيمانية.. وبكل ما يشخص من مثل راقية وقيم عالية وأخلاق فاضلة وسلوكيات متعالية.. وبكل ما يسلطه من أضواء كاشفة على الأفكار المنحطة والسلوكات الدنيئة والتصرفات المشينة والعقائد الفاسدة.. وبكل ما يزخر به من أداء لغوي عال وبلاغي فصيح.. وبكل ما يقدمه من جمالية لفظية وشاعرية تركيبية عز نظيرهما.. على الرغم من كل ذلك تعرض هذا السرد القصصي مثله مثل كثير من القضايا الاسلامية الاخرى لعدد من التعسفات وكثير من التجاوزات وجملة من المفاهيم الغريبة عن طبيعته مما أفقدته العديد من خصائصه وخصوصياته وأفرغته من مقوماته، ونأت به عن كثير من المزايا والأهداف النبيلة التي من اجلها صيغ بالشكل الذي هو عليه في كتاب الله تعالى، بل لقد أفرغه هذا التدخل البشري السافر من محتواه وفحواه وجعله كأنه أجوف لا طائلة تحته اللهم الا من الجانب الحكائي اي من جهة ما يروي ويقص من احداث.. حيث ان القصة القرآنية أصبحت تعيش بين الحقيقة والخيال في حياة وأذهان كثيرة من الناس، وأضحت بينهم تروى للتسلية والتفكه والسمر وضرب الأمثال.. او تقرأ للخوض - وبجميع الوسائل المتاحة- في الغيبيات والقضايا التي لم يشهد احد خلقها.. ولم يعيشوا أحداثها ولم يوجدوا في زمانها ولم يمشوا في أماكنها، ولا عايشوا شخصياتها.. ولا ارتكزوا في التعامل معها على ما هو حقائق تاريخية مدونة وغير محرفة، ولا اعتمدوا على روايات محققة مدققة لا يرقى اليها الشك من اي جهة.. مما أدى وبكل وضوح الى الحديث عن التاريخ البشري بشكل خرافي أو برُؤية أسطورية، أو بضرب من الظن الذي لا يغني من الحق شيئا.. ومن ثمة أفرغت القصة القرانية من كل الأهداف المسطرة التي يسعى القران الكريم الى تحقيقها في الحياة البشرية..(٩)ء
وللدراسة بقية ستأتي بإذن الله تعالى فيما بعد، واللهَ نسأل التوفيق والسداد آمين

بقلم الدكتور عبد الرزاق المساوي

الإحالات والمراجع:ء             
(١)هذا النص رُوِيَ في كتب الأدب والنّقد ومن هذه الكتب "العمدَة في صِناعَةِ الشّعر ونَقْدِه" لابن رشيق القيرواني [باب في الرّدّ على مَن يكرَه الشّعر]المكتبة التجارية-القاهرة/مصر الطبعة الثانية السنة ١٩٥٥ الجزء الاول الصفحة ٣٠.. وقد رووه بصيغَة التّمريض ، من دونِ إسناد إلى مَعْلوم ، فلا يبعد أن يكونَ النقاد والأدباء والشّعراء يتداولونَه لإضفاء القيمَة والشرعيّة على الشّعر. والحَنين يكونُ عند الناقة ، بالصَّوْتِ وتَحَنَّنَت النَّاقةُ على ولدِها تَعَطَّفَت، وأَصلُ الحَنِينِ ترجيعُ الناقة صوْتَها إثْرَ ولدها، والحَنُونُ من الرياح التي لها حَنِينٌ كحَنِين الإِبِل أَي صَوْتٌ يُشْبِه صَوْتَها عند الحَنِين. و قد أورَدَه العراقي في حاشيتِه على احياء علوم الدين لابي حامد الغزالي ٥٠٥ هـ انظر الجزء الثالث الصفحة ١٦٥ المكتبة العصرية بيروت ١٩٩٢.. المتعلّقَة بتخريجه لأحاديث الكتاب و سياقُه أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم زاد عبّاس بنَ مرداس من الغنائم لمّا أقبَل يشكو قلّةَ النّصيب ، فقال لَه : "أتقول في الشعر؟ " فجعل يعتذر إليه ويقول : بأبي أنت وأمي إني لأجد للشعر دبيبا على لساني كدبيب النمل، ثم يقرصني كما يقرص النمل فلا أجد بدا من قول الشعر ، فتبسم صلى الله عليه وقال " لا تدع العرب الشعر حتى تدع الإبل الحنين " وقال:"وأما زيادة: (اقتطعوا عني لسانه) -بطبيعة الحال وما بعدها- فليس في شيء من الكتب المشهورة.. و قد عدّه تاج الدّين السبكي من أحاديث الإحياء التي لا أصلَ لَها، أورَدَه السبكي في كتاب طبقات الشافعية الكبرى، وهو من أحاديث الإحياءِ التي ليس لَها أصل و لا سنَد معتَمَد عند أهل رواية الحديث والعلم بفقهه.. وان لحديث العباس بن مرداس أصلا في صحيح مسلم..
(٢) العمدة في صناعة الشعر ونقده لابن رشيق مرجع سابق الجزء الأول الصفحة ٢٤.
(٣) طبقات فحول الشعراء لابن سلام الجمحي تحقيق محمود شاكر طبعة المدني/القاهرة الجزء ١ ص٢٤
(٤) المرجع السابق نفسه
(٥) تأويل مشكل القرآن لأبي محمد عبد الله بن قتيبة شرح ونشر أحمد صقر المكتبة العلمية المدينة المنورة ط:١٩٨١/٣ الصفحة:١٨..
(٦) كتابة تاريخ السرد العربي المفهوم والصيرورة للدكتور سعيد يقطين مجلة علامات في النقد المجلد التاسع الجزء الخامس والثلاثون ذو القعدة ١٤٢٠ الصفحة ٤٠..
(٧) انظر مقدمة قراءة جديدة للسرد القصصي في الخطاب القرآن للأستاذ عبد الرزاق المساوي، وانظر كتاب "مع الأنبياء في القرآن الكريم" تأليف عفيف عبد الفتاح طبارة دار العلم للملايين بيروت لبنان الطبعة الخامسة بدون تاريخ الصفحة ٢٥ فصل منهج القرآن في قصصه..
(٨) انظر "السرد القصصي في الخطاب القرآني بين الحقيقة والخيال" الآستاذ عبد الرزاق المساوي.. انظر فصل "القصة في القرآن" الصفحة ١١٨ من كتاب "التصوير الفني في القرآن " لسيد قطب رحمه الله دار الشروق لبنان الطبعة الرابعة ١٩٧٨/١٣٩٨..
(٩) انظر قصة آدم في كتاب "قصص الأنبياء" المسمى بالعرائس من تأليف ابن إسحاق أحمد بن إبراهيم الثعلبي "وهو من أسوء الكتب في هذا الباب" المكتبة الشعبية للطباعة والنشر بيروت لبنان بدون تاريخ.. وقارن بكتاب "التعبير الفني في القرآن" الدكتور بكري شيخ أمين دار الشروق لبنان الطبعة الرابعة ١٤٠٠هـ/١٩٨٠م الصفحة ٢١٨..
رسالة أحدث
السابق
هذا آخر موضوع.

0 تعاليق:

إرسال تعليق