class='ads'>
الأحد، مايو 10

الجزء التاسع من دراسة: لماذا قالت الملائكة: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء

الجزء التاسع تحت عنوان:


آدم عليه السلام من المعصية إلى التوبة



بقلم الدكتور عبد الرزاق المساوي


اما آدم عليه السلام فقد خضع هو الآخر لأنموذجين من الاختبارات مثله في ذلك مثل الملائكة العنصر الإيجابي في التعامل مع أوامر الله تعالى من جهة، ومثل ابليس العنصر السلبي في التعامل مع أوامر الله تعالى من جهة اخرى..

فكانت الدورة الاولى بالنسبة لآدم عبارة عن القيام بسلوك معين المطلوب فيه من آدم وزوجه عدم الفعل ( لا تفعلا ): "لا تقربا هذه الشجرة" لكن آدم لم يكن في مستوى الملائكة عند تعاملهم مع ابليس الغدة الزائدة عليهم.. لم يكن آدم مثلهم مع ان الله تعالى حذره هو وزوجه قائلا: "ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين"، في حين لم نجد اي تحذير رباني او ترهيب للملائكة من مغبة رفضهم -إن هم رفضوا- ابليس من بينهم، بل على العكس من ذلك يبدو ان الامر كان عندهم عاديا تماماً، فوجود ابليس بينهم لم يزعجهم، ولم يحرك فيهم أي إحساس بدونيته بما أنه مخلوق من مارج من نار، لم يسألوا حتى عن الجدوى من وجوده بينهم وهو ليس منهم، بدليل ان الله تعالى ذكره على انه كان معهم، ولم يذكر خلافه أو غيره، ولا الخلاف أو الاختلاف حول وجوده..

لقد استمع آدم عليه السلام لصوت الراسب الاول ابليس الذي ما كان همه الا ان يخرج آدم مما هو فيه من الخير ويُبْعِده عما وعده الله به من رغد العيش في الجنة، <( يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين)> هذا النهي الرباني فتح بابا أمام إبليس وكان له فرصة لكي يعمل على الانتقام من آدم وتعكير أجواء فرحته بدخول مكان يجد فيه كل شيء كل ما يحب ويرضى، كل شيء ميسر وجاهز، رغد من العيش وسكينة ووقار وهناء وراحة بال <( إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى وإنك لا تظمأ فيها ولا تضحى )> لكن إبليس سمع القول الإلهي <( يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى. )> <( ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين )> هنا بداية الاختبار وهنا أولية الامتحان وهنا منفذ الشيطان لذلك استعان ابليس بما وهبه الله من مواهب عقلية وقوى جسدية كي يصل الى المراد، فكانت الوسوسة واللف والدوران والوعود الكاذبة والمراوغات الزائفة والحلف الغموس، والوقائع المزورة والاستدراج الإبليسي، وكانت الوسوسة سلاحه الأقوى في تدبير شأنه مع آدم فردا وزوجه تثنية: <(فوسوس اليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى)> وقال أيضا: <(..ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة الا ان تكونا ملكين او تكونا من الخالدين وقاسمهما اني لكما لمن الناصحين..)>
ليس مع ابليس اي فكر سديد ولا اي رأي مفيد قد يعود على آدم بالنفع، هو لم ينفع نفسه فيكف ينفع من جعله منذ البداية عدوه.. ومن هنا سوف يتغير اسمه الذي عرفناه به منذ بداية السرد لقصة آدم عليه السلام ليصبح موصوفا بالشيطنة التي منها سيصاغ له اسم جديد هو الشيطان، سيغيب عنا ابتداء من هذا المشهد اسم إبليس ليحل محله صفة أو قل اسم جديد جمع معاني الأبلسة ودلالات الوسوسة لتتكون منها الشيطنة.. ({فوسوس لهما الشيطان)} و({فوسوس إليه الشيطان)} فكان ان وقع آدم وزوجه في شرك تدبيره وهو المتسربل بالغطرسة والاستكبار والحسد والعجرفة والضلال.. ظل ابليس بعد أن أصبح هو "الشيطان" يوسوس لهما وإليهما ويضللهما ويوهمهما ويقسم لهما ويلح عليهما في السؤال وكله صبر وأناة حتى بلغ قصده وحقق رغبته ووفق في بغيته..

ان الوسوسة الشيطانية ذات الطبيعة الجنية والأصول النارية على الخصوص سلاح فتاك لأنه يستحوذ على المضغة التي اذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله الا وهي القلب، فللنار مكانها الذي قد توجد فيه، ولدخانها واسع الأمكنة التي قد يصل إليها، فقد يكون الشيطان/إبليس ذاتا موجودا في مكان معين (كالنار، وخصوصا أنه مخلوق من مارج من نار أي آخر اللهب) وفي مكان محدد، ثم قد تكون لكلمته وقيله ووسوسته ونفثه ونفخه وهمزه (كالدخان الذي يتمدد في الأجواء) ما استطاع أن يصل إليه صوته وجلبته، المهم هو أن إبليس بذل كل ما في وسعه بصفته شيطانا كي يصل إلى قلب آدم وزوجه  وكان الفضل في ذلك للذكاء المحتال والوسوسة.. قال الإمام البغويّ في تفسيره(٢٤): "والوسوسة: حديث يلقيه الشيطان في قلب الإنسان" (سورة الأعراف)، كما اعتبرها رحمه الله تعالى: "الكلام الخفيّ الّذي يصل مفهومه إلى القلب من غير سماع"(سورة الناس)

وسوف نقف عند هذه اللفظة القرآنية "وسوس" لنستشف معانيها ونستخرج دلالاتها من ذاتها ونستوحي منها ظلالها ونتلمس إيحاءاتها من خلال السياق القرآني نفسه دون التماس الأمر في غيره من أخبار غريبة عن طبيعته..

إن الوسوسة هذه جاءت من الفعل المكوَّن من صوتين اثنين مكررين هما (وس/ وس) وكل لفظ في العربية يأتي بصوتين لغويين مكررين متعاقبين على هذا الشكل (مثل: عسعس زلزل  هدهد  صرصر.. الخ) فانه يدل على أن الفعل المتكون منها متكرر، لان التكرار على مستوى الأصوات يوحي بالتكرار دلاليا وفعليا وواقعيا اي على مستوى الفعل نفسه ودلالته وواقعيته.. وهذا ملمح جميل يعطينا دلالة تكرار الفعل من لدن ابليس الشيطان، ولذلك فان فعله للوسوسة تكرر ووقع على آدم وزوجه أكثر من مرة، إن هناك إصرارا على الهمس الخفي بالخطرة الرديئة المحملة بالاغواء والإغراء وتزيين المعصية وتحليتها والترغيب في القيام بها وتعاطيها.. ولذلك فان الوسوسة نفسها جاءت هنا للتعبير انطلاقا من أصلها الذي يعود الى صوت الحلي كالذهب وما شاكله من الزينة، والذي يعتبر مغريا بقيمته وجذابا بشكله ومثيرا بلونه ومرغوبا فيه ومعلوما ومعروفا بين الأقوام بتاريخيته.. ولقد أفرغت هذه الدلالات القيمية على الفعل "وسوس" لذلك تم اختياره بالعناية الربانية للدلالة على ذلك الهمس المتكرر والصوت الخفي المتجدد الحامل لدلالات الإغواء والإغراء وتزيين الشر والترغيب في تعاطي المعصية، ولقد جاء فعل وسوس مرة بـ"فوسوس لهما" في (الأعراف)  وأخرى بـ"فوسوس اليه" في (طه)..

وإذا وقفنا مرة أخرى عند هذا الفعل من خلال السورتين في الخطاب القرآني سنجد الفعل وسوس في قصة آدم وزوجه وإبليس قد تعدى بحرفي جر اثنين مختلفين.. فمرة بـ"اللام" في قوله تعالى: "فوسوس لهما الشيطان"، ومرة بـ"إلى" في قوله سبحانه: "فوسوس إليه".. وفي غير الآيتين هاتين نجد وسوس تعدى بحرف الجر "الباء" في قوله تعالى: "يعلم ما توسوس به نفسه" وبحرف الجر "في" في قوله سبحانه: "يوسوس في صدور الناس" ونحن نعلم أن لكل حرف جر معناه الذي يختلف به عن غيره، وقد تشترك أحيانا في بعض المعاني والوظائف، وكلما دخل حرف جر معين على فعل ما ليوصل أثره ويساعده على عمله في الاسم المعدى يكتسب ذلك الفعل الذي توسل حرف الجر ليتعدى به من الدلالات حسب الحرف الذي تعدى به بتنوع معاني حروف الجر الداخلة عليه، بل أكثر من ذلك يستطيع حرف الجر أن يقلب معنى الفعل إلى النقيض، وأن يأتي بضد دلالته، فيصبح للفعل الواحد أكثر من معنى بسبب اختلاف دلالة حرف الجر الذي تعدى به ذلك الفعل.. فلنأخذ مثالا على ذلك من خلال الفعل "راغ" في قصة إبراهيم عليه السلام من قوله تعالى: "فراغ إلى آلهتهم" (الصافات 91) و"فراغ عليهم ضربا باليمين" (الصافات 93) والتي يشير في الآية الأولى حرف الجر "إلى" إلى أن إبراهيم عليه السلام قد جعل وصوله إلى الأصنام غاية يسعى إليها ليحقق ما عزم عليه من تحطيم آلهتهم، أما الآية الثانية فإن "على" بما فيها من الاستعلاء تدل على تمكنه منها واستيلائه عليها وقهره لها وما لحقها منه من آثار التحطيم والتدمير، فكأني هنا بمشهد واحد من مشاهد قصة الخليل عليه السلام يحمل حلقتين اثنتين حلقة "فراغ إلى آلهتهم" ثم حلقة "فراغ عليهم ضربا" وبين الحلقتين حلقة أخرى تطرح فيها بعض الأسئلة "فقال ألا تأكلون ما لكم لا تنطقون".. لتعطينا في الأخير مشهد "فراغ إلى آلهتهم فقال ألا تأكلون ما لكم لا تنطقون فراغ عليهم ضربا باليمين" فراغ إلى أي مال إلى بدلالة الوصول والانتهاء، وعلى بدلالة الاستعلاء والاستيلاء..  

من هنا يمكننا القول بأن فعل الوسوسة في قصة آدم تعدى مرة باللام ومرة بـ "إلى" وهذا التفاوت في التعبير لابد أن يخلف تفاوتا في المعنى وأن يؤثر على الصورة في ذلك المشهد.. ولنأخذ سياق كل وسوسة من الوسوستين من سورتي الأعراف وطه..

 قال عز من قائل: <( * وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ * فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ * وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ * فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ..... )> الأعراف

وقال سبحانه وتعالى: <(* فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى * إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى * فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى * )> طه 

إن الوسوسة بتعديها باللام يدل على القرب، لذلك جاءت في سياق آيات الأعراف وهي قبل آيات طه نزولا جاءت مباشرة بعد قوله تعالى "وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ * فَوَسْوَسَ لَهُمَا" .. للدلالة على وجود آدم وزوجه قرب الشيطان فوسوس لهما ولم ينتظر ولم يؤجل ولم يتأخر فكأن صوت الوسوسة جاء هو وصوت النهي الرباني متعاقبين متتالين على مسامعهما ويبرز هذه الصورة أكثر الحرف العاطف الفاء، وقوله تعالى: "ولا تقربا هذه الشجرة" اسم الإشارة "هذه" يدل على القرب، فالجميع قريب من بعضه، لذلك كان فوسوس لهما معا لآدم وزوجه لم ينفصم عنهما.. ثم إن "فوسوس لهما" كان من أجل فعل معين يصبو إبليس الشيطان  إلى تحقيقه قبل توغلهما في الجنة فيستترا بأشجارها وهو "ليبدي لهما سوءاتهما"..
أما قوله سبحانه: "هل أدلك على شجرة الخلد" يوحي بأن آدم أصبح لا يعرف الشجرة، ولا يدريها، فقد نسيها لبعده عنها ولطول الأمد بينه وبينها، لذلك جاء التعبير بالوسوسة إلى في قوله تعالى: "فوسوس إليه" للدلالة على المشارفة، فإلى تتطلب بعدا مكانيا، والمكان يستدعي إليه الزمان، وعليه يكون الشيطان دفع وسوسته إلى منتهاها فلم تجد قريبا منها غير آدم فاشتغلت عليه وحده.. وكهذا نفهم لماذا جاءت هناك فوسوس لهما معا وجاءت هنا فوسوس إليه وحده، لهما لآدم وزوجه لقربهما منه فوصلت لهما معا بحرف الجر اللام، لكن بـ "إلى" يصور المشهدُ الوصول إلى الانتهاء، ولذلك انتهت الوسوسة إلى آدم ولم تصل إلى زوجه..

ثم لا زال السياق القرآني يدعم هذا التحليل "فوسوس لهما" التي تصور القرب نجد بعدها "ليبدي لهما ما وري عنهما من سوءاتهما" قرب آخر يتجلى في اللباس أقرب شيء إلى الإنسان، ولأجل إبداء سوءاتهما وإبعادهما عن لباسهما وما يستر عوراتهما ولأجل أن يخلع عنهما لباس الحشمة والوقار والحياء قبل أن يتوغلا في الجنة فيستترا بأشجارها أسرع الشيطان في النفث وعجل بالهمز وبادرهما بالنفخ وهما يسمعان كلام خالقهما ينهاهما عن هذه الشجرة القريبة منهما، فوسوس لهما مباشرة وترك الرسالة في نفسيهما وبصم عليها في ذهنيهما وعلقها بأذنيهما<( وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ * وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ )> فذكرهما المولى جل وعلا ونبههما مرة أخرى تنبيها شديدا وحذرهما تحذيرا مفصلا، ليتحملا معا عاقبة اختيارهما فيما بعد.. قال:<(فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى)> وطال عليهما الأمد حتى احتاجا إلى أن يقول لهما الشيطان "يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ.." بعد أن قال له في المرة السابقة مشيرا للشجرة باسم الإشارة للقريب هذه: "عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ "، والشيطان لا يفتأ يذكرهما ويحضهما على الاهتمام بقوله وإطاعته واتباع نصيحته، ويحاول بشتى الوسائل استمالتهما إليه.. إذن يمكن القول بأن آدم وزوجه قد تعرضا لاستفزاز شيطاني إما عن قرب وإما عن بعد في أماكن متباعدة وفي أزمنة متفاوتة بالهمس بالشر إغواءً وإغراءً وتكرارا حتى ترسّخ الإغواء واستفحل الإغراء بعد أن تمكن النسيان منهما <(ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي)> نلحظ أن الآية تتحدث عن نسيان آدم فقط وحده مع أنه لم يأكل منها وحده بل "فأكلا منها فبدت لهما سوءاتهما" هما معا أكلا من الشجرة لكن النسيان كان على آدم "فنسي" وزوجه لم تذكر في القرآن صراحة بهذا الفعل ولم ينسب إليها، ولكن بما أنها أكلت معه "فأكلا منها" كان هذا دليلا على نسيانها هي أيضا، إذ لم تذكره بالنهي ولم تساعده على تفكر تنبيه الله لهما حين قال سبحانه: <(ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين)> وهما معا يعرفان <(إن هذا عدو لك ولزوجك) وبذلك تحققت أهداف الشيطان/ابليس من الوسوسات، فكانت استجابة آدم وزوجه في غير محلها ووقعا في السلوك المنهي عنه واتباعا امر الشيطان/إبليس ولم ينتبها لأمر الرحمن سبحانه غفلة منهما وسهوا ونسيانا وليس تعنتا ولا تطاولا ولا استكبارا ولا إباء، كما أن المعصية لم تحصل رغبة وحبا منهما في المعصية أو رغبة منهما في عدم الطاعة والامتثال للحق سبحانه وتعالى، ولا حبا في التطاول على امر الله عز وجل-كما أشرنا من قبل- فحتى ربهما سبحانه وتعالى يحكي عنهما أنه عز وجل لم يجد لهما عزما ولم يجد لهما تصميما على المعصية ولا سبق إصرار "ولقد عهدنا الى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما"(طه١١٥) إن آدم نسي ما عهده الله إليه، وزوجه نسيت أن تذكره بذلك.. نسيت إن الشيطان لكما عدو، ونسيت أيضا فلا يخرجنكما من الجنة.. والنسيان آفة الآفات يحصد الذكريات، ويودي بالمحفوظات، ويسبب لصاحبه المشكلات في الحياة، فهو حالة نفسية بسبب داخلي أو بسبب شيطاني، وقد يصبح مرضا يغلف الدماغ ويغشي الذاكرة، وهو في اللغة مصدر الفعل (نسى) ولهذه المادة -كما يقول ابن فارس-(٢٥): "أصلان صحيحان يدل أحدهما على إغفال الشيء.. والثاني على تركه.. فالأول: نسيت الشيء إذا لم تذكره نسياناً وممكن أن يكون النسي منه، والنسي ما سقط من منازل المرتحلين من رذال أمتعتهم فيقولون: تتبعوا أنساءكم، ومنه (النسا) وهو عرق النسا، وإذا همز تغير المعنى إلى تأخير الشيء، ونسئت المرأة تأخر حيضها عن وقته، والنسيئة بيعك الشيء نساء وهو التأخير، نقول: نسأ الله في أجلك وأنسا أجلك أخره وأبعده، وانتسؤوا تأخروا وتباعدوا، والنسئ في كتاب الله (التأخير) وأما في الاصطلاح فالنسيان ترك الإنسان ضبط ما استودع إما لضعف قلبه وإما عن غفلة وإما عن قصد حتى ينحذف عن القلب ذكره، يقال نسيته نسياناً قال عز وجل{ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما} (طه:115) {فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان} (الكهف:63) {لا تؤاخذني بما نسيت} (الكهف:73) ثم إن هذا النسيان نفسه من عمل الشيطان <(وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره)> فهو الذي يذكيه ويزكيه وينميه في النفس البشرية ويحول بينها وبين التذكر ليتمكن من تحقيق أهدافه، وإبليس عندما عصى ربه أصبح يحمل اسما آخر هو الشيطان، لذلك فالنسيان الذي أصاب آدم وزوجه كان بسبب "إبليس" الذي أصبح "الشيطان"، لقد ذُكر ابليس بالاسم في الآيات التي تحدثت عن مشهد الأمر الرباني للملائكة بالسجود لآدم، وكان النداء بإبليس اسما علما بعد امتناعه عن السجود ورفضه الانصياع لأمر الله تعالى. وذُكر في الآيات التي تحدثت عن حواره مع الله كما أوضحنا سلفا.. إن لفظ ابليس اسمَ علمٍ استخدم صراحة في الآيات التي تصور المواجهة المادية حيث يتجلى حضور آدم  وإبليس بذاتيهما كان حينها إبليس مخلوقا يُرى ويُسمع ويؤمر ويمتنع عن الأمر الإلهي ويجادل ويرفض التوبة بعد السؤال..

أما لفظ الشيطان فقد ظهر بعد ذلك في الآيات التي تتحدث عن مرحلة ما بعد طرده من رحمة الله تعالى وإخراجه من بين الملائكة وهبوطه من منزلته.. بعد هذه المرحلة نجد لفظ الشيطان مذكوراً بدل إبليس بوسوسته لآدم وزوجه حينها لم يعد لابليس وجود مادي في القصة متمثلاً بهيأته وذاته وشخصه.. وهذا واضح من خلال مشاهد القصة لقد غاب الاسم الشخصي "إبليس"،وصار يرمز له بلفظ "الشيطان" إشارة إلى الوسوسة المعنوية والتأثير عن بعد، لقد صار عمله كله خفية وتسترا ووسوسة وغواية وتزييناً وهمسا.. إنه حصار من كل الجهات وإنها أنواع من التأثيرات واستغلال للأزمنة والوضعيات من همس ونفث ونفخ ولمز ودفع وترغيب وترهيب وتزيين وتمنين وتسويف كلها أشكال الوسوسة.. إنها عوامل وسوسية متعددة تضافرت للضغط على آدم وزوجه باسم الشيطان لذلك كان الله في عون آدم عليه السلام.. فإن الوسوسة لا يستهان بتأثيرها ولا يقلل من مفعولها، إنها لأمر خطير وإن شرها لشيء عظيم لذلك كانت الاستعاذة منها بثلاثة أسماء جليلة من أسماء الله عز وجل وهي "الرب" و"الملك" والإله" في قوله تعالى من سورة الناس " قل أعوذ برب الناس ملك الناس إله الناس من شر الوسواس" في حين نجد شرورا أخرى أربعة يستعاذ منها باسم واحد في سورة الفلق في قوله جل وعلا: "قل أعوذ برب الفلق من (١)شر ما خلق و(٢) من شر غاسق إذا وقب و(٣) من شر النفاثات في العقد و(٤) من شر حاسد إذا حسد"... كل هذه الشرور الأربعة على الرغم من كبر مصائبها ونفاذ شرورها وشدة تأثيرها على الناس إلا أن الاستعاذة باسم واحد من أسماء الله الحسنى "الرب" رب الفلق يكفيهم شرورها، أما شر الوسواس سيحتاج منا إلى الاستعاذة المضاعفة والمختلفة "رب وملك وإله" إشارة إلى ما تحمله من شرور وخيمة وما تتجلى به من آفات عظيمة وتأثيرات شديدة، فما بالنا إذا كانت هذه الوسوسة تعدت بحروف مختلفة تعطيها حق الاستحواذ والسيطرة والتتبع والإحاطة بالموسوس له من جميع الجهات.. لهذا نقول إن الذي تعرض إليه أبونا آدم عليه السلام ليس بالهين ولا بالسهل، إنه تعرض لشر كبير ومكروه عظيم وابتلاء جلل وعلى مر الوقت الذي قضاه في الجنة وبكل وسائل الوسوسة وفي كل تجليات الأبلسة والشيطنة، ومع ذلك كله استطاع عليه السلام وزوجه أن يُوَهِّنا ذلك التأثير الشرير ويُضْعِفاه بالعودة السريعة إلى الرب الملك الإله عندما قالا "ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لكونن من الخاسرين".. إنه عليه السلام نسي فعلا بتأثير من ضغوط الوساوس ولم يتعمد وليس رغبة منه ولا حبا في ذلك ولكنه كما قال الرب جل وعلا: "نسي ولم نجد له عزما" إذاً لم يكن عازما ولا مصرا ولا عاقدا ولا قاطعا في اختياره، لقد كان اختياره نسيانا وليس عزما لأن العزم كما يقول أبو الحسين أحمد بن فارس: "(عزم) العين والزاء والميم أصلٌ واحد صحيحٌ يدلُّ على الصَّريمة والقَطْع.[.....] قال الخليل: العَزْم: ما عُقِد عليه القلبُ من أمرٍ أنت فاعلُه، أي متيقِّنه. ويقال: ما لفلانٍ عزيمةٌ، أي ما يَعزِم عليه، كأنَّه لا يمكنه أن يَصْرِمَ الأمر، بل يختلط فيه ويتردَّد."(٢٥) وتقول: ما لفلان عزيمة: أي لا يثبت على أمر يعزم عليه.(٢٦) هكذا هو وضع آدم عليه السلام كانت معصيته على غير الشكل الذي كانت عليه معصية إبليس الذي أبى الامتثال لأمر ربه بالسجود لآدم واستكبر وتعنت في ذلك وكان بذلك من الكافرين والفاسقين، لقد استغل كل الإمكانيات الشيطانية كي يوقع الزوجين من وسوسة وإغواء وإغراء واستدراج وتلبيس وتغليف للحق بالباطل حتى القسم استعمله، كان يقسم انطلاقا من شيطنته على أنه يريد نصحهما ويريد إرشادهما لما فيه الخير لهما.. يقول الله تعالى : <(وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ)>(الأعراف21) ونقف مليا عند قوله سبحانه وتعالى : "وقاسمهما" فلماذا جاءت اللفظة على وزن فاعَل "قاسم"؟ ولم تأت على أفعل "أقسم" أي أن الصيغة تأتي على الشكل التالي "وأقسم لهما إني لكما لمن الناصحين" مكان "وقاسمهما" فهذا الوزن في اللغة العربية يأتي للدلالة على المشاركة، بمعنى أن آدم وحواء اشتركا في القسم مع إبليس، كأنهم أقسموا جميعهم قسما واحدا لتحقيق غاية واحدة، فهل هما فعلا شاركا إبليس القسم وتواطؤوا كلهم على مستلزماته ونتائجه أم أن الصيغة أتت في هذا السياق من سورة الأعراف وهي الوحيدة في القصة للدلالة على غير ما هي له من دلالات المشاركة والمفاعلة، لأنه لا يمكن أن تكون هذه الدلالات ثم يكون آدم "نسي ولم نجد له عزما"..

وللحديث بقية بإذن الله تعالى...

0 تعاليق:

إرسال تعليق